من الإليزيه إلى الزنزانة.. ما وراء سجن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي؟
بعد إدانته بتهمة التآمر الجنائي في قضية التمويل غير المشروع
في مشهدٍ غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، دخل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي اليوم الثلاثاء أحد سجون العاصمة باريس لقضاء حكم بالسجن خمس سنوات، بعد إدانته بتهمة التآمر الجنائي في قضية التمويل غير المشروع لحملته الانتخابية عام 2007 بأموال يُعتقد أنها جاءت من نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
بهذا القرار، أصبح ساركوزي أول رئيس سابق لدولة في الاتحاد الأوروبي يقضي فعليًا عقوبة بالسجن، وأول زعيم فرنسي بعد فيليب بيتان يُسجن، في سابقة وصفتها وسائل الإعلام الفرنسية بأنها زلزال سياسي وأخلاقي يعيد طرح أسئلة حول العلاقة بين السلطة والعدالة في فرنسا وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية
من الإليزيه إلى الزنزانة
اختار ساركوزي أن يبدأ رحلته إلى السجن بهدوء مدروس، حيث خرج من منزله في حي راقٍ غرب باريس برفقة زوجته المغنية كارلا بروني، محاطًا بأفراد عائلته ومجموعة من المؤيدين الذين هتفوا باسمه في مشهدٍ رمزيٍ جمع بين التحدي والمرارة، وتجنب الرئيس السابق الظهور عند بوابات سجن لا سانتي، الذي يضم بين جدرانه بعضًا من أشهر السجناء في التاريخ الفرنسي الحديث.
في زنزانة صغيرة لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة، يقضي ساركوزي أيامه الأولى منعزلًا عن بقية النزلاء لأسباب أمنية، وتفيد التقارير بأنه أُتيح له حمل بعض الكتب، من بينها “سيرة المسيح” و”كونت مونت كريستو” لألكسندر دوما، الرواية التي تتناول قصة رجل بريء يُدان ظلمًا. وأكد في تصريحات لصحيفة “لوفيغارو” أنه سيستغل هذه الفترة في كتابة مؤلف جديد.
صدر الحكم على ساركوزي بعد محاكمة استمرت ثلاثة أشهر، واعتبرت القاضية ناتالي غافارينو أن وقائع القضية ذات خطورة استثنائية ومن شأنها تقويض ثقة المواطنين بالديمقراطية.
القضية تعود إلى الاشتباه في تلقي حملة ساركوزي الانتخابية أموالًا غير مشروعة من نظام القذافي، عبر وسطاء ماليين وشركات وهمية، ورغم تبرئته من بعض التهم المتعلقة بالفساد وإساءة استخدام الأموال العامة، فإن المحكمة اعتبرت أن الأدلة كافية لإدانته بالتآمر الجنائي للحصول على تمويل أجنبي غير قانوني.
قدّم فريق الدفاع طلبًا للإفراج عنه مؤقتًا، بانتظار استئناف الحكم، وهو ما ستنظر فيه محكمة الاستئناف خلال شهرين.
انقسام داخل فرنسا
أثار سجن ساركوزي ردود فعل واسعة في الأوساط السياسية الفرنسية. فبينما اعتبر كثيرون الحكم انتصارًا للعدالة على الحصانة السياسية، رأى آخرون أنه تصفية سياسية تطول أحد أبرز رموز اليمين الفرنسي.
استطلاع للرأي أجرته مؤسسة إيلاب أظهر أن ستة من كل عشرة فرنسيين يرون أن الحكم عادل، فيما عبّر أنصاره عن تضامن واسع معه، متهمين القضاء بالتحيز.
وفي خطوة فُسّرت على أنها ذات أبعاد إنسانية وسياسية في آن، استقبل الرئيس إيمانويل ماكرون سلفه ساركوزي في قصر الإليزيه قبل دخوله السجن، ما أثار انتقادات من قوى اليسار، خاصة من زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور الذي اعتبر اللقاء ضغطًا غير مباشر على القضاء.
ومنذ توليه السلطة عام 2007، كان ساركوزي شخصية مثيرة للجدل، جمعت بين الكاريزما والطموح السياسي الحاد، وقد واجه خلال العقد الماضي سلسلة من القضايا القضائية، بينها اتهامات بالفساد واستغلال النفوذ والتمويل غير المشروع للحملات الانتخابية.
القضية الحالية تضع العدالة الفرنسية أمام اختبار حساس: فهل هي قادرة على الفصل بإنصاف بين سلطة الماضي وسلطة القانون؟
يرى محللون أن تنفيذ الحكم فعليًا ضد رئيس سابق يرسل رسالة قوية مفادها أن أحدًا ليس فوق المساءلة، لكنها في الوقت نفسه تكشف هشاشة العلاقة بين القضاء والسياسة في بلدٍ يقدّس إرث الجمهورية الخامسة.
بين العدالة والإنسانية
رغم طابعه القانوني، يحمل الحدث أبعادًا إنسانية عميقة، فالمشهد الذي جمع ساركوزي بعائلته قبل مغادرته منزله لبدء تنفيذ الحكم ترك أثرًا وجدانيًا في الرأي العام الفرنسي، بدا الرئيس السابق هادئًا، متماسكًا، محاولًا الحفاظ على كرامته أمام الكاميرات والحشود.
وقالت كارلا بروني في منشور عبر وسائل التواصل إن “الحب والصبر سيكونان أقوى من كل ظلم”، في إشارة إلى قناعتها ببراءة زوجها.
ومن داخل السجن، يخضع ساركوزي لإجراءات خاصة تضمن أمنه، تشمل العزل التام عن باقي السجناء، واتصالات محدودة تخضع للمراقبة، ويُتوقع أن يُسمح له بزيارتين أسبوعيتين من أسرته ومحاميه.
تفاعل المجتمع الدولي مع الحكم الصادر ضد ساركوزي بتفاوت، فقد رحبت منظمات الشفافية الدولية ومنظمات مكافحة الفساد بالخطوة بوصفها دليلًا على استقلال القضاء الفرنسي.
أما بعض الدوائر الأوروبية المحافظة، فقد أبدت قلقها من تسييس العدالة في أوروبا الغربية وقالت منظمة العفو الدولية في بيان إن العدالة التي تطبق بمعايير مزدوجة تضعف الثقة الشعبية في المؤسسات الديمقراطية.
تعود خيوط القضية إلى عام 2011، حين سقط نظام معمر القذافي بعد حملة عسكرية قادتها فرنسا، وبعد أعوام، بدأ محققون فرنسيون في تتبع تحويلات مالية وشهادات مسؤولين ليبيين سابقين تحدثوا عن تمويل حملات انتخابية فرنسية.
وأفادت تقارير بأن جزءًا من الأموال نُقل نقدًا إلى باريس قبيل انتخابات 2007، ورغم نفي ساركوزي المتكرر، فإن بعض الوثائق والمراسلات التي عُثر عليها في ليبيا عززت الشكوك حول حجم التمويل.
رسالة رمزية إلى السلطة
دخول رئيس سابق السجن ليس مجرد واقعة قضائية، بل هو حدث يختبر ذاكرة الجمهورية الفرنسية ومفاهيم العدالة والمساءلة.
تاريخ فرنسا شهد الكثير من الأزمات السياسية، لكن نادرًا ما وُضعت السلطة أمام عدالة بهذا الشكل العلني والمباشر.
يقول أحد المحللين في صحيفة لوموند إن سجن ساركوزي ليس فقط عقوبة شخصية، بل فصل جديد في علاقة فرنسا بذاتها، بين الماضي الإمبراطوري وواقع الجمهورية الحديثة التي تضع العدالة فوق الجميع.
سجن لا سانتي، الذي أُنشئ في القرن التاسع عشر، يُعد من أشهر المؤسسات العقابية في فرنسا، واحتجز فيه عدد من أبرز الشخصيات السياسية والإجرامية، يخضع حاليًا لتجديدات وتحسينات تتيح مستوى من الأمان والخصوصية للسجناء الخطرين أو البارزين.
قضية تمويل حملة ساركوزي الانتخابية من أموال ليبية تعود إلى تحقيقات بدأت عام 2013، وامتدت عبر أكثر من عشرين ملفًا قضائيًا.
كما تأتي إدانته ضمن سياق أوسع من قضايا الفساد التي طالت مسؤولين سابقين في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس اتجاهًا متزايدًا نحو مساءلة السلطة، حتى في أعلى مستوياتها.











