عقول تحت المراقبة.. لجنة أسترالية تحذر من تهديد التكنولوجيا العصبية لحرية الفكر

عقول تحت المراقبة.. لجنة أسترالية تحذر من تهديد التكنولوجيا العصبية لحرية الفكر
غلاف تقرير اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان

تفتح التطورات المتسارعة في مجال التكنولوجيا العصبية التي تمكّن من التواصل المباشر بين الدماغ والآلة آفاقًا هائلة لعلاج الأمراض العصبية وتحسين جودة الحياة، لكنها في الوقت نفسه تثير أسئلة أخلاقية وحقوقية عميقة حول مستقبل حرية الإنسان الفكرية وحقه في الخصوصية.

في تقريرها الصادر حديثًا على موقعها الرسمي وعنوانه "راحة البال: استكشاف الحدود الأخلاقية للتكنولوجيا العصبية وحقوق الإنسان"، دعت اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان إلى إعادة التفكير في الإطار القانوني والأخلاقي للتعامل مع هذه التقنيات، محذّرة من أن التسرّع في تبنيها دون ضوابط قد يُفضي إلى تحوّل الإنسان من مستخدم للتكنولوجيا إلى موضوع مراقبة وتحليل.

تكنولوجيا تحترم كرامة الإنسان

يُعدّ هذا التقرير الأول من نوعه على مستوى العالم الذي تصدره مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان حول العلاقة بين التكنولوجيا العصبية والحقوق الأساسية.

التقرير، الذي جاء بعد عامين من البحث والمشاورات، ركّز على كيفية الاستفادة من مزايا هذه التكنولوجيا دون المساس بكرامة الإنسان، مع إيلاء اهتمام خاص بحقوق الأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن.

منذ عام 2023، تبنّت اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان مشروعًا بحثيًا متكاملًا بالتعاون مع جامعة ملبورن وعدد من الخبراء والمختصين في القانون والتقنيات العصبية، واستطلعت آراء أكثر من مئة شخص من مؤسسات أكاديمية وشركات تكنولوجيا ومجتمع مدني، ما جعل التقرير بمنزلة مرجع عالمي جديد لنهج حقوق الإنسان.

الفكر والخصوصية والتعبير

تحذّر اللجنة من أن التكنولوجيا العصبية يمكنها جمع وتحليل البيانات العصبية – وهي أعمق وأدق من أي شكل آخر من البيانات الشخصية، هذه البيانات قد تكشف عن النيات والمشاعر وحتى الاتجاهات السياسية أو الدينية للفرد.

وفي حين تُستخدم هذه التقنيات اليوم في مجالات الطب وإعادة التأهيل، فإن دخولها إلى قطاعات العمل، والتعليم، والأمن، والتسويق السياسي ينذر بتحولات خطيرة تمس جوهر الحرية الإنسانية.

فبحسب التقرير، يمكن أن تُستخدم الأجهزة المزروعة في الدماغ أو القابلة للارتداء لرصد تركيز العاملين، أو تحليل تفاعلات الطلاب في المدارس، أو حتى استهداف المستهلكين بإعلانات مخصصة بناءً على نشاطهم العصبي.

تقول اللجنة إن هذه الاحتمالات تتعارض مع المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن حرية الفكر والضمير، ومع المادة 19 التي تحمي حرية التعبير دون خوف من المراقبة أو العقاب.

بين الفائدة الطبية والمخاطر

تُظهر الدراسات أن سوق التكنولوجيا العصبية العالمي تجاوز 15 مليار دولار عام 2024، مع توقعات بتضاعفه ثلاث مرات خلال عقد واحد، وفقًا لتقديرات البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

لكن هذه الطفرة الاقتصادية تأتي على حساب فراغ تشريعي دولي واضح، فحتى الآن، لا يوجد إطار قانوني دولي شامل يحكم استخدام البيانات العصبية، باستثناء مبادرات بحثية من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

التقرير الأسترالي شدّد على ضرورة إصلاح قوانين الخصوصية المحلية لتشمل "البيانات العصبية" بشكل صريح، معتبرًا أنها أكثر حساسية من الحمض النووي نفسه، لأنها تترجم ما يدور في عقول البشر قبل أن يُترجم إلى سلوك.

حق غير قابل للمساس

من بين أكثر النقاط إثارة في التقرير، توصيته بحظر استخدام التكنولوجيا العصبية لأي غرض من شأنه التأثير على أفكار الأفراد أو آرائهم، سواء عبر الدعاية السياسية أو التسويق التجاري، وخاصةً في حالة الأطفال والمراهقين.

اللجنة وصفت فكرة التسويق العصبي بأنها شكل مستحدث من التلاعب بالوعي الإنساني، مطالبة بسن تشريعات تمنع استغلال البيانات العصبية لأغراض تجارية أو سياسية.

وفي هذا السياق، حذّرت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية من أن إدخال هذه التكنولوجيا في الأنظمة التعليمية أو أماكن العمل دون موافقة صريحة قد يمثل انتهاكًا مباشرًا لحق الإنسان في الخصوصية والتفكير بحرية.

العمل والعدالة والمجال العسكري

حذّر التقرير من الاستخدامات الناشئة للتكنولوجيا العصبية في بيئات العمل، حيث بدأت بعض الشركات العالمية في اختبار أجهزة لقياس مستويات التركيز والانفعال لدى الموظفين، وعدّت اللجنة هذا الاتجاه يشكل انتهاكًا جوهريًا للخصوصية النفسية والعاطفية، داعية إلى حظر استخدامها إلا في الحالات المرتبطة مباشرة بسلامة العاملين في المهن عالية المخاطر.

كما أوصى التقرير بوقفٍ مؤقت لاستخدام هذه التقنيات في العدالة الجنائية إلى حين إجراء مراجعة قانونية شاملة، محذرًا من إمكان استخدامها كوسائل لاستجواب المتهمين أو تحليل نواياهم، وهو ما يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة.

أما في المجال العسكري، فدعا التقرير إلى مراقبة مستمرة لتطبيقات التكنولوجيا العصبية، خصوصًا في ضوء تقارير عن تجارب لتطوير واجهات دماغية لتحسين أداء الجنود أو التحكم عن بُعد، وذكّر التقرير بالتزامات أستراليا بموجب القانون الدولي الإنساني الذي يحظر أي تجربة تمس كرامة الإنسان أو تحوّله إلى وسيلة حرب.

ردود الفعل الدولية والحقوقية

لاقى التقرير ترحيبًا واسعًا من منظمات دولية مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي اعتبرته خطوة مهمة نحو ما يُعرف بـ"الحقوق العصبية" وهو المفهوم الذي بدأت مناقشته في الأمم المتحدة منذ عام 2021.

وفي المقابل، دعت شركات تكنولوجيا عصبية ناشئة إلى التمييز بين الاستخدامات الطبية المفيدة والتخوفات النظرية، مشيرة إلى أن الإفراط في التنظيم قد يعوق الابتكار.

غير أن اللجنة الأسترالية شدّدت على أن الهدف ليس إعاقة التقدّم، بل تأسيس نظام أمان حقوقي يضمن أن يكون الابتكار في خدمة الإنسان، لا العكس.

وبدأت الأبحاث في التواصل الدماغي-الآلي منذ خمسينيات القرن الماضي، لكنها شهدت قفزة نوعية مع ظهور الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار الدقيقة في العقد الأخير.

في عام 2022، أعلنت شركات مثل "نيورالينك" في الولايات المتحدة عن تجارب لزرع رقائق دماغية تهدف لعلاج الشلل والاكتئاب، لكنها فتحت أيضًا نقاشًا عالميًا حول إمكانية إساءة استخدامها في المراقبة أو التحكم السلوكي.

التقرير الأسترالي يأتي ضمن هذا السياق الدولي المتزايد الوعي بضرورة تحديد الخط الفاصل بين التقدّم العلمي وصون الحرية الإنسانية.

نحو ميثاق عالمي جديد

إن ما يطرحه التقرير الأسترالي ليس مسألة محلية، بل قضية إنسانية عالمية تتعلق بمستقبل العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، فإذا كانت الثورة الرقمية قد أعادت تعريف الخصوصية في القرن الحادي والعشرين، فإن الثورة العصبية قد تعيد تعريف الحرية الفكرية نفسها.

وفي ضوء هذا التحول، تتجه الأنظار نحو المنظمات الأممية لوضع إطار قانوني دولي شامل للحقوق العصبية، يشمل حماية حرية الدماغ كحق أصيل من حقوق الإنسان.

وفي النهاية، كما خلص التقرير في عبارته الختامية، بأن راحة البال الحقيقية لا تتحقق بالتكنولوجيا التي تقرأ أفكارنا، بل بالثقة التي تضمن لنا أن تبقى أفكارنا ملكًا لنا وحدنا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية