الخصوصية في العصر الرقمي.. الأمم المتحدة تحذّر من مخاطر التمييز وعدم المساواة
الخصوصية في العصر الرقمي.. الأمم المتحدة تحذّر من مخاطر التمييز وعدم المساواة
في تقرير جديد قُدِّم إلى الدورة الـ60 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، دقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ناقوس الخطر بشأن التهديدات المتزايدة للحق في الخصوصية في العصر الرقمي، مسلطة الضوء على أنماط متكررة من التمييز وعدم المساواة الناجمة عن جمع البيانات الضخم والتقنيات القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وأكد التقرير، الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، أن التحول الرقمي الذي يجتاح العالم اليوم لم يعد مجرد نقلة تقنية، بل بات ساحة صراع جديدة تُختبر فيها حدود العدالة والمساواة والحقوق الأساسية للأفراد.
منذ أكثر من عقدين، أخذت البيانات موقعًا مركزيًا في صياغة القرارات الحكومية والتجارية على حد سواء، ما أوجد فرصًا هائلة للتنمية والابتكار، لكنه فتح في المقابل الباب أمام ممارسات رقابية واسعة النطاق وتدخلات قد تُفضي إلى إدامة التمييز وتعميق الفوارق بين الأفراد والمجتمعات.
التقرير يشير إلى أن ما يُسمى بـ«الاقتصاد القائم على البيانات» قد منح الشركات والحكومات قوة غير مسبوقة في الوصول إلى تفاصيل دقيقة عن حياة الأفراد، من أنماط استهلاكهم إلى ميولهم السياسية، الأمر الذي قد يترجم إلى تقييد فرص العمل، أو التمييز في الحصول على الخدمات، أو حتى الملاحقة الأمنية بناءً على سمات بيومترية أو خلفيات عرقية.
المساواة في العصر الرقمي
وشدد التقرير على أن الخصوصية لم تعد مجرد حق فردي يتعلق بحماية الحياة الخاصة، بل غدت شرطًا أساسيًا للحفاظ على مبدأ المساواة في العصر الرقمي.
التدخلات غير المشروعة في هذا الحق ترتبط بشكل مباشر بتهديد حرية التعبير والتنقل والمشاركة السياسية، بل وتمتد آثارها إلى التعليم والصحة والعمل والسكن، لتعيد إنتاج أنماط قديمة من التمييز بوسائل تقنية حديثة.
واستعرض التقرير بقلق بالغ الآثار السلبية للتقنيات التنبؤية والبيومترية التي تُستخدم على نطاق متزايد في مجالات إنفاذ القانون والهجرة والرعاية الاجتماعية والصحة.
ففي قطاع العدالة الجنائية مثلًا، أدت الخوارزميات التنبؤية إلى ترسيخ الصور النمطية ضد الأقليات العرقية والدينية، عبر استهدافها بمستويات أعلى من الرقابة والاعتقال، بينما كشفت تقارير أخرى عن فشل أنظمة التعرف على الوجوه في التمييز بدقة بين الأفراد من خلفيات عرقية مختلفة، وهو ما يضاعف احتمالات الاعتقالات التعسفية والمعاملات غير العادلة.
أما في مجال الهجرة فقد سلط التقرير الضوء على الممارسات التي تعتمد على البيانات البيومترية لتحديد المخاطر وتقرير من يُسمح له بالعبور أو يُمنع من الدخول، هذه الآليات كثيرًا ما تنتهي بوصم جماعات بأكملها وإقصائها على أساس الأصل أو الانتماء، وهو ما يرقى إلى ممارسات تمييزية صريحة.
ويمتد الأمر كذلك إلى نظم الرعاية الاجتماعية التي باتت تعتمد على الخوارزميات لتحديد المستفيدين من الدعم والخدمات، وهو ما يُخشى أن يؤدي إلى استبعاد الفئات الأشد ضعفًا بسبب ثغرات تقنية أو انحيازات مدمجة في أنظمة الذكاء الاصطناعي.
انتهاك كرامة الأفراد
وكشف التقرير عن أن الخطر لا يتوقف عند حدود التمييز المباشر، بل يتعداه إلى انتهاك كرامة الأفراد وحقوقهم الأساسية بطرق أكثر خفاءً. فعندما يُحرم شخص من وظيفة أو خدمة اجتماعية بسبب قرار آلي غير شفاف، فإن ذلك لا ينتهك حقه في الخصوصية فحسب، بل يقوض أيضًا مبدأ العدالة الاجتماعية، ويكرس حالة من «اللا مساواة الرقمية».
هذه الممارسات، بحسب التقرير، تنذر بتكريس فجوات قائمة أصلًا بين الأغنياء والفقراء، وبين المجموعات المهيمنة والمهمشة.
وتطرق التقرير إلى الأبعاد الصحية لهذا الواقع، مشيرًا إلى أن اعتماد الخوارزميات في التشخيص والعلاج قد يحمل بدوره مخاطر كبيرة، خاصة عندما تُبنى على بيانات غير شاملة أو متحيزة.
وفي بعض الحالات، أثبتت الدراسات أن الأجهزة الطبية المبنية على خوارزميات ذكاء اصطناعي أظهرت أداءً أقل دقة مع أصحاب البشرة الداكنة أو النساء، ما قد يؤدي إلى أخطاء في التشخيص والعلاج. وهنا، يصبح الحق في الصحة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالحق في الخصوصية وحماية البيانات، باعتبار أن أي انحراف في جمع البيانات أو تحليلها قد يُترجم إلى معاناة إنسانية حقيقية.
أنظمة التعرف على الهوية
وخصص التقرير مساحة واسعة للحديث عن المخاطر المرتبطة بالبنية التحتية الرقمية العامة، حيث إن نشر شبكات مراقبة واسعة النطاق، سواء عبر الكاميرات أو أنظمة التعرف على الهوية، يهدد بشكل مباشر الحق في الخصوصية ويعزز مناخ الخوف لدى الأقليات والمجموعات المستضعفة.
وأشار إلى أن هذه الممارسات ليست حكرًا على الحكومات فحسب، بل تمتد إلى الشركات الخاصة التي تستخدم البيانات لتحقيق مكاسب تجارية بطرق لا تراعي حقوق الأفراد أو الشفافية.
وأكدت المفوضية أن مواجهة هذه التحديات تتطلب مقاربة شاملة ترتكز على احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان، مع إدماج مبادئ عدم التمييز والمساواة في جميع مراحل تصميم واستخدام التقنيات الرقمية.
ودعت إلى وضع أطر تنظيمية دولية واضحة تضمن ألا تتحول البيانات إلى أداة للسيطرة والإقصاء، بل وسيلة لتعزيز التنمية العادلة والشاملة.
وشدد التقرير أيضًا على مسؤولية الشركات في هذا المجال، مذكرًا بأن مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال وحقوق الإنسان تُلزم القطاع الخاص بتقييم آثار تقنياته على الحقوق الأساسية، واتخاذ التدابير اللازمة للحد من الأضرار وتعويض المتضررين.
غياب الشفافية
وفي هذا السياق، أشار التقرير إلى أن ضعف المساءلة وغياب الشفافية يشكلان تحديًا كبيرًا، حيث غالبًا ما تُخفى الخوارزميات وراء جدران من السرية التجارية، ما يمنع الأفراد من معرفة كيف تُتخذ القرارات التي تمس حياتهم اليومية.
وحذّرت المفوضية من أن استمرار تجاهل هذه القضايا سيؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات، سواء كانت حكومية أو خاصة، ويهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل.
كما أن المجتمعات الديمقراطية، بحسب التقرير، لا يمكن أن تزدهر في ظل بيئة رقمية تُقيد حرية الأفراد وتراقبهم على نحو دائم، بل تحتاج إلى فضاء مفتوح يضمن الشفافية والعدالة.