العدالة المالية المفقودة.. هل ينجح منتدى الأمم المتحدة في معالجة أزمة الديون العالمية المتفاقمة؟
العدالة المالية المفقودة.. هل ينجح منتدى الأمم المتحدة في معالجة أزمة الديون العالمية المتفاقمة؟
في خطوة وُصفت بأنها الأهم منذ عقود في مسار إصلاح النظام المالي العالمي، أطلقت الأمم المتحدة الأربعاء، في مدينة جنيف، المنتدى الدولي الجديد لمعالجة أزمة الديون العالمية، بدعم من الحكومة الإسبانية وعدد من المؤسسات المالية الدولية.
المنتدى، الذي يحمل اسم منتدى إشبيلية للديون، يسعى إلى مساعدة الدول النامية على التخلص من عبء الديون غير المستدامة، التي باتت تمثل أحد أكبر العوائق أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بعدما أجبرت أكثر من ثلاثة مليارات شخص حول العالم على التضحية بالصحة والتعليم من أجل خدمة الديون بحسب موقع أخبار الأمم المتحدة.
واقع غير مقبول أخلاقيًا وإنسانيًا
تأتي هذه المبادرة في لحظة حرجة من التاريخ الاقتصادي العالمي، فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي، وصلت ديون الدول النامية إلى مستويات قياسية، متجاوزة 100 تريليون دولار، في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وتراجع التمويل الميسر، وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أكثر من 60 دولة نامية تنفق حاليًا ما لا يقل عن عشرة في المئة من إيراداتها الحكومية على مدفوعات الفوائد وحدها، بينما تنفق دول أخرى أضعاف ذلك على خدمة الديون مقارنة بميزانيات التعليم أو الرعاية الصحية، وهذا الواقع، كما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، غير مقبول أخلاقيًا وإنسانيًا، لأن الدول لا ينبغي أن تُجبر على الاختيار بين سداد ديونها أو خدمة شعوبها.
تأسيس رؤية أكثر عدالة
منتدى إشبيلية للديون ليس مجرد منصة مالية جديدة، بل محاولة لتأسيس رؤية أكثر عدالة في النظام المالي العالمي، حيث يستند المنتدى إلى ما عُرف باسم التزام إشبيلية، وهو خارطة طريق اتُفق عليها خلال المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية الذي استضافته إسبانيا في يونيو الماضي، والذي دعا إلى إعادة هيكلة شاملة لنظام الإقراض العالمي وجعله أكثر شفافية واستدامة.
ويهدف المنتدى الجديد إلى تحويل تلك الالتزامات إلى إجراءات ملموسة من خلال ما وصفه غوتيريش بحوار عالمي حول الديون يجمع بين الحكومات ووزراء المالية والدائنين والمقترضين على طاولة واحدة، من أجل صياغة مبادئ مشتركة للإقراض المسؤول ووضع آليات أكثر سرعة وعدالة لإعادة هيكلة الديون.
مخاطر التعثر المالي والأمن الاجتماعي
يكتسب المنتدى أهمية خاصة في ظل التزايد الكبير في عدد الدول التي تواجه مخاطر التعثر المالي، فبحسب صندوق النقد الدولي، يعيش أكثر من نصف الدول منخفضة الدخل في حالة مديونية مرتفعة أو معرضة لخطرها، بينما يعاني ما يقرب من 25 بلدًا من انعدام القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، وتُعد دول إفريقيا جنوب الصحراء من بين الأكثر تضررًا، حيث تجاوزت نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في بعض بلدانها 90 في المئة، كما تواجه دول في آسيا وأمريكا اللاتينية ظروفًا مشابهة، ما يجعل الأزمة ذات طابع عالمي يمسّ الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمليارات البشر.
ورغم أن الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي دعوا مرارًا إلى إصلاح هيكل الديون العالمية، فإن التقدم ظل بطيئًا. فالنظام المالي الدولي، الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، صُمم أساسًا لخدمة الاقتصادات الكبرى، بينما بقيت الدول النامية في موقع المتلقي للديون دون القدرة على المشاركة في وضع قواعد الإقراض أو إعادة الهيكلة. ولهذا يأتي منتدى إشبيلية كأول محاولة لإعطاء صوت حقيقي للمقترضين، حيث تم تأسيس منصة موازية داخل المنتدى باسم منتدى المقترضين، لتمكين الدول المثقلة بالديون من تنسيق مواقفها القانونية والفنية وتبادل الخبرات حول آليات التفاوض مع الدائنين.
الجانب الإنساني للأزمة
الجانب الإنساني للأزمة هو ما يجعل هذه المبادرة أكثر إلحاحًا، فوفقًا لتقرير حديث صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يعيش 3.4 مليار إنسان في بلدان تنفق على خدمة ديونها أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم معًا، وفي بعض الدول، مثل زامبيا وسريلانكا وغانا، تسببت الديون في انهيار قطاعات حيوية، حيث توقفت برامج التغذية المدرسية وتقلصت خدمات الرعاية الصحية بسبب نقص التمويل، وفي أمريكا اللاتينية، دفعت الديون الباهظة بعض الحكومات إلى تقليص برامج الحماية الاجتماعية، ما أدى إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة، هذه النتائج لا تعني فقط خسائر اقتصادية، بل تمسّ مباشرة حق الإنسان في الحياة الكريمة والتعليم والصحة كما نصت عليه المواثيق الدولية.
أزمة الديون الأعنف
وتشير الأمم المتحدة إلى أن أزمة الديون الحالية هي الأعنف منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما عانت أمريكا اللاتينية من أزمة مماثلة أدت إلى ما عُرف آنذاك بالعقد الضائع للتنمية، واليوم، يحذر الخبراء من تكرار السيناريو نفسه على نطاق أوسع، إذا لم تتدخل المؤسسات المالية الكبرى لإصلاح نظام الإقراض العالمي الذي يكرس التفاوت بين الشمال والجنوب، ويدعو الاقتصاديون إلى خفض تكاليف الاقتراض للدول النامية، وتفعيل آليات شفافة لإعادة الجدولة، وفرض مسؤولية مشتركة على المقرضين والمقترضين على حد سواء لضمان الاستدامة المالية.
وقد حظي إطلاق المنتدى بردود فعل واسعة في الأوساط الدولية، فقد رحبت المفوضة الأوروبية للشؤون الاقتصادية بجهود الأمم المتحدة، معتبرة أن المنتدى يمثل فرصة لإعادة التوازن بين العدالة المالية والعدالة الاجتماعية، كما أشاد الاتحاد الإفريقي بهذه الخطوة، مؤكدًا أن الوقت قد حان لتغيير القواعد التي تُبقي القارة رهينة الديون، من جهتها، وصفت منظمة العفو الدولية الأزمة بأنها انتهاك صامت لحقوق الإنسان، لأن السياسات المالية القاسية المفروضة على الدول النامية تعني في الواقع حرمان الملايين من التعليم والعلاج والغذاء.
مبادئ العدالة الدولية
وفي السياق القانوني الدولي، تؤكد تقارير خبراء الأمم المتحدة أن الديون يمكن أن تُعدّ شكلاً من أشكال الإكراه الاقتصادي الذي يتعارض مع مبادئ العدالة الدولية، فالميثاق الأممي والاتفاقيات الاقتصادية تنص على حق الشعوب في التنمية، وهو حق لا يمكن تحقيقه في ظل أنظمة مالية تُجبر الدول على التضحية بحقوق مواطنيها الأساسية، ومن هنا، يدعو الأمين العام غوتيريش إلى ما أسماه عدالة مالية جديدة تضع الإنسان في قلب النظام المالي العالمي، وتعيد النظر في العلاقة بين الدائنين والمقترضين على أساس من المساواة والمسؤولية المشتركة.
وفي المدى القريب، يُتوقع أن يركز منتدى إشبيلية على وضع مبادئ عملية لتقييم استدامة الديون، وتعزيز الشفافية في العقود المالية، وتحسين قدرة الدول النامية على التفاوض مع المقرضين، كما سيعمل المنتدى بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي على تصميم آليات إنذار مبكر لمنع الأزمات المالية قبل وقوعها، في محاولة لتجنب السيناريوهات الكارثية التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين.
يؤكد مراقبون أن نجاح هذا المنتدى يعتمد على مدى التزام الدول المتقدمة والدائنين الكبار بتقديم تنازلات حقيقية، وعلى استعدادهم للقبول بإصلاحات قد تحد من هيمنتهم على النظام المالي العالمي، أما بالنسبة للدول النامية، فإن المنتدى يمنحها فرصة نادرة لاستعادة السيطرة على مصيرها المالي، وتحويل ديونها من عبء يهدد مستقبلها إلى أداة للتنمية المستدامة.











