في الذكرى الثمانين لتأسيسها.. كيف أسهمت الأمم المتحدة في صياغة السلام والأمن والتنمية وحقوق الإنسان؟

في الذكرى الثمانين لتأسيسها.. كيف أسهمت الأمم المتحدة في صياغة السلام والأمن والتنمية وحقوق الإنسان؟
الأمم المتحدة

بعد ثمانية عقود من تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، تعود الأنظار إلى المنظمة التي وُلدت من رماد الحرب العالمية الثانية لتصبح منصة عالمية للأمل والتعاون والتضامن الإنساني.

ومنذ لحظة ميلادها في سان فرانسيسكو، كان طموحها الأكبر أن توحد البشرية حول مبدأ بسيط وعميق يتجسد في أن السلام الدائم لا يمكن تحقيقه إلا عبر العدالة، وأن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ.

الخبيرة في شؤون الأمم المتحدة ناتالي ساماراسينغ تلخص هذه المسيرة الطويلة بقولها: "كانت الأمم المتحدة تعبيراً عن الأمل الجماعي للبشرية، وعن إيمان جديد بأن العالم قادر على أن يعيش في إنسانية مشتركة، تحت مظلة من القوانين والمعايير الدولية التي تحمي الجميع"، وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.

تأسيس الأمل بعد الحرب

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت الأمم المتحدة بمنزلة ميلاد جديد للمجتمع الدولي.

ولأول مرة، ظهر مفهوم الإنسانية المشتركة، حيث أدركت الدول أن أمنها وازدهارها مرتبطان ببعضهما البعض.

ومنذ ذلك الحين أصبحت المنظمة منصة دائمة للحوار وحل النزاعات، وبيتًا للمعايير التي تنظم العلاقات بين الأمم.

كانت السنوات الأولى حافلة بالتحديات، لكنها أرست الأساس لما بات يُعرف بـ"المشروع العالمي المشترك"، وهو تصور يرى أن لكل إنسان نصيبًا في تحقيق السلام والعدالة والازدهار، بغض النظر عن حدود الجغرافيا أو السياسة.

حقوق الإنسان.. وعد الأمم المتحدة للفرد

من أبرز محطات التاريخ الأممي اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وهو الوثيقة التي منحت طابعًا شخصيًا لوعد الأمم المتحدة للبشرية.

الإعلان لم يكن مجرد نص قانوني، بل بيان إنساني غير مسبوق يؤكد أن كرامة الفرد هي جوهر السلم العالمي.

توضح ساماراسينغ أن هذا الإعلان "جسد فكرة أن لدينا مسؤولية مشتركة تجاه بعضنا البعض، وأن انتهاك حقوق شخص في بلد بعيد يعني أن إنسانيتنا جميعًا تتعرض للاهتزاز".

ومنذ ذلك الحين، أصبح الدفاع عن حقوق الإنسان أحد الأعمدة الأربعة التي يقوم عليها عمل الأمم المتحدة إلى جانب الأمن والتنمية وسيادة القانون.

حفظ السلام.. حضور في مناطق الأزمات

مع نهاية الأربعينيات، بدأت المنظمة مهمتها الصعبة ممثلة في حفظ السلام الدولي، فمن مراقبة اتفاقات الهدنة إلى إرسال بعثات متعددة الجنسيات أصبحت القبعات الزرقاء رمزًا للأمل في مناطق النزاع.

نجحت تلك البعثات في تحقيق استقرار نسبي في دول مثل ناميبيا والسلفادور وكولومبيا وسيراليون، حيث أسهمت في بناء مؤسسات وطنية وإعادة الحياة المدنية إلى مجراها الطبيعي.

ورغم الصعوبات التمويلية والسياسية التي تواجه عمليات حفظ السلام، تظل هذه البعثات شاهدًا على أن وجود طرف دولي محايد يمكن أن يمنع اندلاع الحروب مجددًا.

فبينما يُنفق العالم أكثر من 7.5 مليار دولار يوميًا على الجيوش والحروب، فإن الأمم المتحدة تُنفق المبلغ نفسه تقريبًا خلال عام كامل على عمليات حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، في مفارقة تختزل طبيعة أولويات البشرية.

القضاء على الجدري.. نموذج للعمل الجماعي

من أبرز إنجازات الأمم المتحدة الصحية القضاء على مرض الجدري في عام 1980، وهو إنجاز علمي وإنساني غير مسبوق في التاريخ الحديث.

لقد جمع المشروع بين الإرادة السياسية والعلمية والمجتمعية، بمشاركة أطباء وممرضين وعاملين مجتمعيين من مختلف القارات، ليصبح دليلاً عمليًا على ما يمكن أن تحققه الأمم المتحدة عندما توحد الجهود لخدمة هدف إنساني مشترك.

تصف ساماراسينغ هذا النجاح بأنه "تجسيد لما يمكن أن تقوم به الأمم المتحدة في أفضل حالاتها، حين تتحول من منصة سياسية إلى أداة لإنقاذ الأرواح".

حقوق المرأة.. مسيرة نحو المساواة

شهدت العقود اللاحقة جهودًا غير مسبوقة لتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين، وكان مؤتمر بكين عام 1995 نقطة تحول تاريخية، حيث أُقر "منهاج عمل بيجين" الذي وضع المساواة في قلب التنمية والسلام وحقوق الإنسان.

وبفضل هذه الجهود، ارتفعت معدلات تعليم الفتيات بشكل غير مسبوق، وأصبحت الملايين منهن قادرات على إكمال تعليمهن الثانوي والجامعي.

كما تصاعد الوعي العالمي بقضايا العنف الجنسي في النزاعات، والاتجار بالبشر، والعبودية الحديثة.

تقول ساماراسينغ: "لقد كانت تلك التحولات هائلة، ليس فقط في تمكين المرأة، بل في إعادة تعريف المجتمع الإنساني كله باعتباره مشروعًا مشتركًا لا يقوم إلا بالمساواة والكرامة".

منتدى النقاش الذي منع الحرب الباردة من الاشتعال

رغم الانتقادات التي تُوجه للأمم المتحدة بأنها "مجرد منتدى للنقاش"، فإن هذا الدور بحد ذاته كان إنقاذيًا في لحظات مصيرية من القرن العشرين.

ففي ذروة الحرب الباردة، كانت الأمم المتحدة المنصة الوحيدة التي جمعت الخصوم على طاولة واحدة.

وتشير ساماراسينغ إلى أن "القدرة على التحدث، حتى وسط العداء، منعت في مرات عدة مواجهة نووية محققة".

الحقيقة أن الحرب الباردة ظلت باردة إلى حد بعيد لأن المنظمة وفرت مساحة مستمرة للحوار والتفاوض وتخفيف التوترات، وهو ما يؤكد أن الدبلوماسية ليست رفاهية بل شرط للبقاء.

التنمية من الألفية إلى الاستدامة

مع مطلع الألفية الجديدة، دشنت الأمم المتحدة الأهداف الإنمائية للألفية، والتي كانت بمنزلة أول خطة عمل عالمية لمحاربة الفقر والجوع والمرض.

لقد وحدت تلك الأهداف جهود الحكومات والمجتمع الدولي، وأطلقت موجة من البرامج التي نجحت في خفض معدلات الفقر المدقع إلى النصف، وزيادة عدد الأطفال الملتحقين بالمدارس، وتحسين صحة الأمهات.

وفي عام 2015، انطلقت أهداف التنمية المستدامة بوصفها خارطة طريق جديدة تمتد حتى عام 2030، لتربط بين التنمية والعدالة البيئية والمناخية.

كما مثّل اتفاق باريس للمناخ في العام نفسه خطوة كبرى في مسار التعاون الدولي لمواجهة أخطر تهديد يواجه الكوكب: التغير المناخي.

توضح ساماراسينغ أن "أهداف التنمية المستدامة لم تكن اتفاقًا بين الحكومات فحسب، بل كانت نتيجة مشاورات عامة واسعة، أعادت إلى الناس الإحساس بأنهم جزء من الحل".

جائحة كوفيد-19 اختبار للعالم والأمم المتحدة

في عام 2020، واجهت البشرية اختبارًا وجوديًا جديدًا مع جائحة كوفيد-19.

ورغم الانقسامات السياسية، نجحت الأمم المتحدة في توحيد جهودها عبر وكالاتها المختلفة لتقديم استجابة شاملة شملت الصحة العامة، والتطعيم، والإغاثة الاقتصادية والاجتماعية.

كان ذلك مثالًا على قدرة المنظمة على العمل متعدد الأبعاد، من المختبرات إلى غرف السياسات، ومن القرى النائية إلى العواصم الكبرى.

ورغم الانتقادات، أثبتت الأزمة أن العالم ما زال يحتاج إلى الأمم المتحدة بصفتها منصة لتنسيق الجهود وتبادل الموارد والخبرات في مواجهة التحديات العابرة للحدود.

الأمم المتحدة… فكرة لا تزال تلهم العالم

بعد ثمانين عامًا من تأسيسها، لا تزال الأمم المتحدة تحمل المعنى ذاته الذي حملته في عام 1945: رمز الأمل الإنساني.

فهي ليست مجرد مؤسسة بيروقراطية، بل تعبير عن إرادة الشعوب في أن تتعاون لا أن تتصارع، وأن تبني لا أن تدمر.

تقول ساماراسينغ في ختام حديثها: "تظل الأمم المتحدة أداة بيد الحكومات لتخدم شعوبها، وهي أيضًا انعكاس لإيمان الناس بأننا قادرون على العمل معًا من أجل عالم أفضل. ما زالت تمثل تلك السمة الإنسانية العميقة: القدرة على الأمل والإرادة المشتركة لبناء المستقبل".

نحو مستقبل أكثر تضامنًا

مع دخولها عقدها التاسع، تواجه الأمم المتحدة عالمًا أكثر تعقيدًا وتشرذمًا مما كان عليه في أي وقت مضى.

لكن في الوقت نفسه، يظل جوهر رسالتها ثابتًا.. العمل الجماعي من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان.

وإذا كانت التحديات قد تغيرت، فإن المبادئ التي تأسست عليها لم تفقد بريقها، بل ازدادت إلحاحًا في زمن الأزمات المتعددة.

من الحرب إلى الوباء، ومن الفقر إلى المناخ، تبقى الأمم المتحدة شاهدة على أن الطريق نحو السلام العادل والتنمية الشاملة يبدأ دائمًا بخطوة واحدة هي الإيمان بالإنسانية المشتركة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية