صوت الحقيقة.. معهد الصحافة الدولي يكرّم الصحفية الفلسطينية الشهيدة مريم أبو دقة
صوت الحقيقة.. معهد الصحافة الدولي يكرّم الصحفية الفلسطينية الشهيدة مريم أبو دقة
في مشهد يعيد الاعتبار للصحافة بوصفها رسالة إنسانية قبل أن تكون مهنة، أعلن معهد الصحافة الدولي في العاصمة النمساوية فيينا عن منح الصحفية الفلسطينية الراحلة مريم أبو دقة جائزة "أبطال الصحافة لعام 2025"، تقديرًا لشجاعتها النادرة وإصرارها على أداء رسالتها المهنية خلال الحرب في قطاع غزة رغم المخاطر القاتلة التي كانت تحيط بها في الميدان.
وقال المعهد في بيان أوردته شبكة شهاب الإخبارية اليوم السبت إن الجائزة تُمنح سنويًا للصحفيين الذين يجسدون روح الحرية الصحفية ويدافعون عن الحق في الوصول إلى المعلومة وسط ظروف القمع والعنف، مؤكداً أن مريم أبو دقة تمثل رمزًا خالدًا للصحفيين الذين ضحوا بحياتهم في سبيل نقل الحقيقة من قلب المأساة الفلسطينية.
شهيدة الكلمة الحرة
استشهدت مريم أبو دقة في أغسطس الماضي إثر قصف إسرائيلي استهدف مستشفى ناصر في خان يونس جنوب قطاع غزة أثناء تغطيتها المباشرة للأحداث، لتكون واحدة من عشرات الصحفيين الفلسطينيين الذين فقدوا حياتهم خلال محاولتهم نقل صورة الواقع الإنساني في القطاع المحاصر.
ورغم المخاطر، واصلت مريم العمل حتى اللحظة الأخيرة، موثقةً بالكلمة والصورة تفاصيل القصف، واستهداف المدنيين، وانهيار البنية الصحية، دون أن تفقد إيمانها بأن دور الصحافة لا يتوقف أمام الخوف.
كما أعلن معهد الصحافة الدولي ومنظمة دعم الإعلام الدولي في بيان مشترك عن منحها أيضًا وسام "بطل حرية الصحافة العالمية" تكريماً لصمودها في وجه الخطر وإصرارها على الدفاع عن حرية الإعلام في واحدة من أكثر البيئات قسوة في العالم.
سيرة مقاومة بالكاميرا
لم تكن مريم أبو دقة مجرّد مراسلة ميدانية، كانت شاهدًا على الوجع اليومي للفلسطينيين، وصوتًا للمدنيين المحاصرين في قطاع غزة، عرفها زملاؤها بصلابتها المهنية وإنسانيتها البسيطة، إذ كانت تقول في أحد لقاءاتها السابقة: "نحن لا نملك ترف الحياد حين يكون الأطفال وقود الحرب، واجبنا أن نُظهر الحقيقة كاملة".
عملت مراسلة ميدانية لعدد من المنصات الصحفية الدولية والمحلية، واشتهرت بتغطياتها المؤثرة من المستشفيات ومناطق القصف، حيث كانت تروي القصص الصغيرة التي لا تلتقطها العدسات عادة، عن أمهات فقدت أبناءها وأطباء يعملون بلا كهرباء لإنقاذ الجرحى.
وجاء إعلان الجائزة من فيينا ليعيد اسم مريم إلى واجهة المشهد الإعلامي الدولي، بعد أن تحوّل استشهادها إلى قضية ضمير عالمية أثارت تساؤلات حول الثمن الذي يدفعه الصحفيون في مناطق النزاع، خصوصًا في فلسطين حيث تحوّلت الكاميرا إلى هدف، وأوضح البيان الصادر عن معهد الصحافة الدولي أن مريم "جسّدت أسمى معاني الشجاعة الصحفية، إذ واصلت عملها في ظروف وصفت بأنها من بين الأخطر في العالم".
من جانبها، قالت منظمة دعم الإعلام الدولي إن "مريم أبو دقة لم تكن مجرد شاهدة على المأساة، بل كانت صوتًا يرفض الصمت، ورسالة إنسانية لا تموت"، وأضافت أن تكريمها هو تكريم لكل الصحفيات اللواتي يخضن معركة الوعي تحت النار، في فلسطين وسواها من مناطق النزاع.
أصوات من الميدان
زملاء مريم في غزة استقبلوا نبأ التكريم بمزيج من الفخر والحزن، يقول أحد المصورين الذين رافقوها في تغطياتها الأخيرة إن "مريم كانت تعرف أن الموت قريب، لكنها كانت تقول دائمًا: إن لم نوثق نحن، من سيفعل؟". في حين قالت زميلتها في المهنة الصحفية فداء الحسيني إن هذا التكريم "ليس فقط اعترافًا بشجاعة مريم، بل إدانة ضمنية لصمت العالم أمام استهداف الصحفيين الفلسطينيين".
منظمات حقوقية محلية، منها مركز مدى لحرية الإعلام، اعتبرت الجائزة "صرخة ضد الإفلات من العقاب"، مشيرة إلى أن أكثر من مئتين وخمسين صحفياً فلسطينياً قُتلوا منذ عام 2023 في قطاع غزة وحده، في ظل غياب أي محاسبة دولية حقيقية.
تزامن هذا التكريم مع دعوات متزايدة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية للتحقيق في استهداف الصحفيين في الأراضي الفلسطينية، فقد جددت منظمة اليونسكو مطالبتها بضرورة توفير حماية خاصة للإعلاميين أثناء النزاعات، مؤكدة أن مقتل الصحفيين في غزة يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي، وتهديدًا لحرية الإعلام في العالم.
وقالت ميشيل باشليه، المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان، في تصريحٍ سابق أدانت فيه استمرار استهداف الصحفيين في مناطق النزاع، إن "مقتل الصحفيين لا يعني فقط إسكات أصوات فردية، بل إسكات الحقيقة ذاتها"، وأضافت أن تكريم مريم أبو دقة يجب أن يتحول إلى التزام دولي بحماية زملائها الذين ما زالوا يغطّون المأساة ذاتها في القطاع.
بين البطولة والفقد
تجسّد مريم أبو دقة في استشهادها المزدوج: الصحفية، والإنسانة، صورة نادرة للبطولة اليومية التي يمارسها الصحفيون الفلسطينيون في الميدان، فهي لم تحمل سلاحًا، لكنها حملت كاميرتها درعاً ضد النسيان، كانت تعرف أن الصورة قد تكون الأخيرة، لكنها كانت تدرك أيضًا أن الحقيقة لا تُنقل إلا من قلب الخطر.
لقد صار اسمها اليوم رمزًا دوليًا للصحافة المقاومة، وصار تكريمها تذكيرًا بأن الكلمة يمكن أن تكون أقوى من الرصاص حين تكتب بضمير حيّ.
يُعد معهد الصحافة الدولي، ومقره فيينا، من أقدم وأبرز المؤسسات العالمية المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة وحماية الصحفيين في مناطق النزاع. تأسس عام 1950، ويمنح سنويًا جائزة "أبطال الصحافة" لعدد محدود من الصحفيين الذين أظهروا شجاعة استثنائية في مواجهة المخاطر دفاعًا عن الحقيقة.
في فلسطين، وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية تصاعدًا غير مسبوق في استهداف إسرائيل للإعلاميين خلال العامين الأخيرين، ووفقًا لتقرير صادر عن نقابة الصحفيين الفلسطينيين استشهد أكثر من 250 صحفيًا وصحفية منذ اندلاع العدوان على غزة في أكتوبر 2023، في حين جُرح المئات وفُقد عدد آخر تحت الأنقاض.
كما أشار تقرير لجنة حماية الصحفيين الدولية إلى أن الأراضي الفلسطينية تُعدّ اليوم من أخطر المناطق على حياة الصحفيين في العالم، حيث يُقتل إعلامي كل عشرة أيام في المتوسط أثناء تغطية الأحداث الميدانية.
هذه الأرقام، إلى جانب التكريم العالمي لمريم أبو دقة، تعيد إلى الأذهان أهمية الدور الإنساني للصحافة في مواجهة الحروب، وتؤكد أن حرية الكلمة تبقى رغم كل شيء أقوى من محاولات طمسها.











