من العزلة إلى الاندماج.. "مصالحة" المغربي نموذج فريد لإعادة تأهيل سجناء التطرف
من العزلة إلى الاندماج.. "مصالحة" المغربي نموذج فريد لإعادة تأهيل سجناء التطرف
في وقت تتزايد فيه التحديات المرتبطة بالتطرف والعنف في المنطقة، اختار المغرب مساراً مختلفاً يقوم على الحوار والتأهيل بدل العزل والعقاب فقط.
ومنذ عام 2017، يعمل برنامج "مصالحة" الذي تشرف عليه المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، بالشراكة مع مؤسسات دينية وحقوقية، على تحويل السجون من فضاءات للعقوبة إلى فضاءات للتقويم وإعادة البناء النفسي والفكري والاجتماعي.
خلال السنوات السبع الماضية، تمكن البرنامج من الإفراج عن 288 سجيناً مدانين في قضايا مرتبطة بالتطرف والإرهاب، بعد أن اجتازوا مراحل التأهيل بنجاح، في تجربة باتت توصف إقليمياً ودولياً بأنها نموذج في التوفيق بين متطلبات الأمن ومبادئ حقوق الإنسان، وفق وكالة أنباء الأناضول.
تعريف مفهوم السجن
برنامج "مصالحة" الذي أُطلق رسمياً عام 2017، جاء امتداداً للاستراتيجية الوطنية لإصلاح المؤسسات السجنية التي تبناها المغرب عام 2016، بهدف جعل السجن مؤسسة إصلاحية بالدرجة الأولى، وبدلاً من الاقتصار على الردع، تم اعتماد مقاربة متعددة الأبعاد تركز على إصلاح الفكر وتصحيح المفاهيم، خاصة لدى المتورطين في القضايا ذات الطابع المتطرف.
ويخضع المستفيدون من البرنامج لدورات تمتد أربعة أشهر تتناول محاور دينية وقانونية ونفسية واجتماعية، بإشراف خبراء من الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، إلى جانب مختصين في علم النفس والاجتماع.
ويهدف البرنامج إلى إعادة بناء العلاقة بين الفرد والدين والمجتمع والدولة، عبر ترسيخ قيم الوسطية، والتسامح، واحترام القانون.
إفراج مشروط بالإصلاح
خلال عرض ميزانية إدارة السجون لعام 2026 أمام مجلس النواب المغربي، كشف المدير العام للمندوبية العامة لإدارة السجون محمد صالح التامك، أن 288 سجيناً أُفرج عنهم منذ إطلاق البرنامج، منهم 198 استفادوا من عفو ملكي، و90 أُطلق سراحهم بعد انتهاء محكوميتهم.
ويُشرف التامك على متابعة دقيقة لتطور البرنامج الذي تحول إلى آلية رسمية لتقويم الفكر المتطرف داخل السجون، مستنداً إلى مقاربة مغربية متكاملة تجمع بين العمل الديني والإصلاح النفسي والإدماج الاجتماعي، ويُنظر إلى "مصالحة" باعتباره خطوة في اتجاه جعل السجين شريكاً في عملية التغيير، وليس مجرد موضوع للعقاب.
من داخل السجون المغربية، روت شهادات لسجناء سابقين خرجوا في إطار برنامج "مصالحة" قصصاً إنسانية تعكس التحول الذي أحدثته التجربة في حياتهم، أحد المستفيدين تحدث لوسائل الإعلام المغربية قائلاً إن "البرنامج جعلني أعيد التفكير في كل شيء، في معنى الإيمان والاختلاف، وفي دور الدين في بناء الحياة لا في هدمها"، وأضاف أنه شعر بأن "المؤسسات الدينية والحقوقية التي رافقته لم تكن تحاكمه، بل كانت تحاوره وتعيد إليه الثقة في المجتمع".
وتؤكد إدارة السجون أن مثل هذه التحولات الشخصية هي ما يميز التجربة المغربية، حيث لا يتم التركيز فقط على الجانب العقائدي، بل أيضاً على تأهيل السجناء مهنياً واقتصادياً، من خلال ورش عمل وتكوينات مهنية تُيسر اندماجهم في سوق العمل بعد الإفراج عنهم.
موقف حقوقي داعم
رحبت منظمات حقوقية مغربية ودولية بالنتائج الإيجابية التي حققها البرنامج، معتبرة أنه يمثل نقلة نوعية في التعامل مع قضايا التطرف داخل السجون. وقد أشاد المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أحد الشركاء الرئيسيين في تنفيذ البرنامج، بكون "مصالحة" يجسد مقاربة حقوقية جديدة توازن بين متطلبات الأمن وضمان الكرامة الإنسانية.
وقالت أمينة بوعياش، رئيسة المجلس، في أحد تصريحاتها السابقة إن البرنامج "ينطلق من مبدأ أن السجين، مهما كانت خلفيته، يظل إنساناً يمكن أن يتغير ويعود إلى المجتمع بصورة إيجابية"، وأضافت أن إشراك خبراء في علم النفس والاجتماع ورجال الدين في العملية ساعد في بناء جسور ثقة نادرة بين الدولة والسجناء.
وفي المقابل، أبدت بعض المنظمات الدولية تحفظات محدودة بشأن ما تعده "غياباً للمعطيات الكافية حول آليات المتابعة بعد الإفراج"، ودعت إلى توفير مرافقة مستمرة للمستفيدين بعد خروجهم من السجن لضمان اندماجهم الكامل، لكن معظم التقارير الصادرة عن مؤسسات دولية، مثل الأمم المتحدة ومكتب مكافحة الإرهاب، عدت التجربة المغربية من بين أكثر التجارب العربية توازناً ونجاحاً في مكافحة التطرف عبر إعادة التأهيل بدل القمع.
الدين أداة للتصحيح لا للإدانة
يُعد البعد الديني أحد أهم ركائز برنامج "مصالحة" في المملكة المغربية، فبدلاً من المواجهة الفكرية المباشرة التي قد تولد مقاومة، يعتمد البرنامج على الحوار الهادئ، ومراجعة المفاهيم الدينية المغلوطة التي يعتمدها الفكر المتشدد، ويشرف على هذا الجانب علماء دين من الرابطة المحمدية للعلماء الذين يقدمون دروساً حول الفهم الصحيح للنصوص، ومقاصد الشريعة في العدل والرحمة، والعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع.
ويُنظر إلى هذا البعد بوصفه أحد أسباب نجاح التجربة، إذ استطاعت المملكة أن توظف مرجعيتها الدينية الوسطية التي يمثلها المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني في إنتاج خطاب مضاد للتطرف من داخل المؤسسات الدينية نفسها، دون اللجوء إلى فرض قوالب فكرية قسرية.
البعد النفسي والاجتماعي
إلى جانب التأهيل الديني، يُمنح الجانب النفسي والاجتماعي أهمية خاصة، فالمتطرفون لا يُعدون ضحايا فكر متشدد فقط، بل أيضاً ضحايا هشاشة اجتماعية وتجارب شخصية قاسية دفعتهم نحو الانغلاق، لذلك يعتمد البرنامج على أخصائيين نفسيين يعملون على معالجة الصدمات، وبناء الثقة بالنفس، ومساعدة السجناء على تجاوز الإحساس بالعزلة والذنب.
ويتم كذلك إعداد المستفيدين مهنياً عبر تكوينات في مجالات الحرف والصناعات الصغيرة وريادة الأعمال، ضمن رؤية تهدف إلى ضمان الاستقرار الاقتصادي بعد الإفراج، لأن الفقر والتهميش غالباً ما يكونان بيئة خصبة لإعادة إنتاج التطرف.
وفي السنوات الأخيرة، لفتت التجربة المغربية أنظار العديد من الدول والمنظمات الدولية، إذ اعتُبرت مثالاً يحتذى في الدمج بين المقاربة الأمنية والإنسانية، ووفق تقارير رسمية، زارت وفود من دول إفريقية وعربية وأوروبية المغرب للاطلاع على تفاصيل البرنامج، بهدف استلهام عناصر منه لتطبيقها في مؤسساتها السجنية.
وقد اعتبر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن "مصالحة" يقدم نموذجاً عملياً في كيفية توظيف أدوات إعادة التأهيل لمكافحة الفكر المتطرف، مشيراً إلى أن النتائج التي حققها المغرب في الحد من حالات العودة إلى التطرف بعد الإفراج تؤكد فاعلية هذه المقاربة.
تجربة إنسانية تتجاوز الجدران
لا يتوقف تأثير البرنامج عند حدود السجون، بل يمتد إلى المجتمع عبر مبادرات توعية ومواكبة أسر السجناء. فالمندوبية العامة لإدارة السجون تعمل على إشراك عائلات المستفيدين في عملية الإدماج بما يساعد على ترميم العلاقات الاجتماعية ويمنح المفرج عنهم شعوراً بالقبول.
ويرى خبراء علم الاجتماع أن هذا البعد الإنساني يميز النموذج المغربي عن غيره، لأنه لا يكتفي بإصلاح السجين فكرياً، بل يسعى إلى إعادة إدماجه في نسيج اجتماعي متماسك، وهو ما يقلل احتمالات العزلة التي قد تعيد إنتاج الفكر المتطرف من جديد.
رغم النجاحات المحققة، يواجه البرنامج تحديات مستمرة تتعلق بمتابعة المستفيدين بعد الإفراج، وضمان عدم تعرضهم للوصم أو التهميش، كما أن العمل على توسيع البرنامج ليشمل فئات جديدة من السجناء يتطلب موارد بشرية ومالية كبرى، لكن إدارة السجون تؤكد التزامها بمواصلة هذا المسار، باعتباره خياراً استراتيجياً يجمع بين الأمن والكرامة الإنسانية.
تحول من الردع إلى الإصلاح
في المحصلة، يمثل برنامج "مصالحة" تحولاً جوهرياً في فلسفة التعامل مع التطرف، إذ نقل المقاربة من منطق الردع والعقاب إلى منطق الإصلاح والاحتواء، فهو يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن من خلال الاعتراف بإمكانية التغيير والإيمان بأن الفكر لا يُحارب بالسلاح، بل بالفهم والفرص.
ولذلك يرى المراقبون أن نجاح "مصالحة" لا يقاس فقط بعدد المفرج عنهم، بل بقدر ما أسهم في خلق وعي مجتمعي جديد يربط بين الأمن والتنمية، وبين العدالة والرحمة، ويجعل من تجربة السجن بداية لمسار حياة جديدة لا نهاية لها.
أُطلق برنامج "مصالحة" في المغرب عام 2017 بمبادرة من المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، وبشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ويهدف إلى إعادة تأهيل السجناء المدانين في قضايا التطرف عبر التأهيل الديني والنفسي والاجتماعي والمهني، ويُعد البرنامج جزءاً من رؤية وطنية شاملة لإصلاح العدالة الجنائية والسجون، تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، ومقاربة الأمن الإنساني، والوسطية الدينية التي تميز النموذج المغربي.










