تهديدات رقمية وتضليل.. حملة ضد الصحفيين الأكراد تعمّق أزمة حرية الصحافة في سوريا
تهديدات رقمية وتضليل.. حملة ضد الصحفيين الأكراد تعمّق أزمة حرية الصحافة في سوريا
تشهد مناطق شمال شرق سوريا تصاعدًا مقلقًا في حملات التحريض الرقمي التي تستهدف الصحفيين الأكراد، في مشهد يعكس هشاشة بيئة الإعلام داخل البلاد، واستمرار نمط التضييق على حرية التعبير الذي تفاقم منذ اندلاع النزاع السوري قبل أكثر من عقد.
خلال الأيام الماضية، انطلقت حملة منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد مجموعة من الصحفيين العاملين في تلك المنطقة، عقب ظهور أحدهم في مقابلة تلفزيونية بثتها قناة الإخبارية السورية، لتتحول سريعًا إلى حملة واسعة طالت أسماء إعلاميين آخرين يعملون في مؤسسات عربية ودولية وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
المنشورات التي انتشرت على منصات مختلفة حملت طابعًا تحريضيًا واتهامات ملفقة، إذ أظهرت صورًا مفبركة ولافتات مزعومة تربط الصحفيين بمظاهرات مناهضة لقوات سوريا الديمقراطية، إلى جانب إشارات زائفة لعلاقات مزعومة مع تشكيلات عسكرية، ووفق ما أعلنه المرصد السوري لحقوق الإنسان في بيان رسمي، فإن تلك المزاعم تهدف إلى تضليل الرأي العام وخلق بيئة عدائية، في محاولة لإسكات الأصوات المستقلة ونزع المصداقية عن الصحفيين العاملين في الميدان.
اعتداء على حرية الصحافة
من جانبها، أدانت شبكة الصحفيين الكرد السوريين ما وصفته بحملة تحريض منظمة تشكل تهديدًا مباشرًا على سلامة الصحفيين والصحفيات في شمال شرق سوريا، معتبرة أن تلك الأساليب تمثل اعتداءً صارخًا على قيم حرية الصحافة. وطالبت الشبكة الحكومة السورية بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية والتحقيق في هوية الجهات التي تقف وراء تلك الحملات، مؤكدة أن الصمت عنها يشجع على الإفلات من العقاب، كما شددت على أن الهجمات الإلكترونية باتت شكلًا جديدًا من أشكال العنف المعنوي الذي يتعرض له العاملون في الحقل الإعلامي في مناطق النزاع.
تأتي هذه الحملة في ظل واقع هش لحرية الصحافة في سوريا، فمنذ عام 2011 تعاني البلاد من واحدة من أسوأ البيئات الإعلامية في العالم، وفق تقارير منظمات دولية منها منظمة مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين، إذ يحتل البلد مراكز متأخرة في مؤشرات حرية الصحافة.
ويواجه الصحفيون فيه مضايقات واعتقالات وتهديدات من مختلف الأطراف المتحاربة، وفي المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد، أشار تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود إلى أن القيود المفروضة على الإعلاميين تتزايد باطراد، حيث يُطلب من الصحفيين الحصول على تراخيص من مؤسسات رسمية والعمل ضمن نقابات معينة، ما يحد من حرية التغطية المستقلة ويضعف التنوع الإعلامي.
استهداف الصحفيين
التقارير الحقوقية أوضحت أن الهجمات الرقمية والتحريض عبر الإنترنت أصبحت سلاحًا جديدًا في مواجهة الصحافة المستقلة، فبدلًا من المواجهة المباشرة، يتم استهداف الصحفيين عبر منصات التواصل الاجتماعي بنشر صورهم ومعلوماتهم الشخصية وتلفيق قصص تمس مصداقيتهم، ما يعرضهم لخطر جسدي ونفسي حقيقي.
ويشير مختصون في حرية الإعلام إلى أن هذه الحملات لا تقتصر على الأذى المعنوي، بل تُحدث آثارًا إنسانية مباشرة، إذ تُجبر الصحفيين على تقليص نشاطهم أو مغادرة مناطق عملهم أو اللجوء إلى الرقابة الذاتية خوفًا من التعرض للاعتداء أو التشهير.
في المقابل، حذرت منظمات دولية مثل لجنة حماية الصحفيين من أن التحريض ضد الصحفيين الأكراد يشكل امتدادًا لظاهرة واسعة تستهدف الإعلام المستقل في سوريا.
وقالت اللجنة في بيان سابق إن استمرار الإفلات من العقاب في الجرائم ضد الصحفيين يغذي مناخ الترهيب والعنف، ويدفع العاملين في المجال إلى الصمت أو الهجرة، أما منظمة مراسلون بلا حدود، فأشارت إلى أن البيئة الإعلامية في مناطق الإدارة الذاتية تشهد تضييقًا ممنهجًا، مع حالات متكررة من الاحتجاز والاستجواب بسبب مواد صحفية أو منشورات على الإنترنت.
خطاب الكراهية عبر الإنترنت
ورغم ذلك، لا تبدو القضية محصورة في حدود سوريا وحدها، بل تتجاوزها إلى الإطار الإقليمي والدولي الذي تتنامى فيه ظاهرة خطاب الكراهية عبر الإنترنت، خاصة ضد الصحفيين العاملين في مناطق النزاعات أو الأقليات، الأمم المتحدة كانت قد أطلقت في السنوات الأخيرة عدة تحذيرات بشأن مخاطر خطاب الكراهية الرقمي، مؤكدة أن التحريض على العنف اللفظي ضد الإعلاميين يمهد الطريق لانتهاكات جسدية واسعة. كما ذكّرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان الحكومات بضرورة احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي، ولا سيما المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تضمن الحق في حرية الرأي والتعبير.
من الناحية الإنسانية، يمثل تصاعد هذا النوع من التحريض خطرًا حقيقيًا على النسيج الاجتماعي في مناطق متوترة أصلًا، إذ يسهم في تغذية مشاعر الكراهية ويزرع الشك بين المكونات المحلية، ما يضعف فرص المصالحة ويهدد تماسك المجتمع، كما يعمق من عزلة الصحفيين الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين تهديدات السلطة ومخاطر الفصائل وضغوط الرأي العام، في بيئة تكاد تنعدم فيها الضمانات القانونية لحمايتهم.
وتشير تقارير المرصد السوري ومنظمات أخرى إلى أن عدد الاعتداءات والانتهاكات ضد الصحفيين والإعلاميين في شمال شرق سوريا ارتفع خلال العامين الأخيرين، في ظل تزايد الحملات الرقمية والملاحقات الأمنية، وتؤكد الإحصاءات أن معظم هذه الانتهاكات تمر من دون تحقيق أو محاسبة، ما يعزز الشعور بالحصانة لدى مرتكبيها ويضعف الثقة في المؤسسات القضائية.
إنتاج أنماط القمع القديمة
يرى مراقبون أن ما يحدث اليوم ضد الصحفيين الأكراد يعيد إنتاج أنماط القمع القديمة بأساليب جديدة، حيث تنتقل أدوات السيطرة من الميادين إلى الفضاء الإلكتروني، ليصبح الإنترنت نفسه ساحة نزاع تُستخدم فيها الكلمة سلاحاً. ومع غياب التشريعات الواضحة التي تجرم خطاب الكراهية والتحريض عبر المنصات الرقمية، تظل حماية الصحفيين رهينة للمبادرات الفردية والبيانات الرمزية، في حين يحتاج الواقع إلى إجراءات ملموسة تضمن سلامتهم ومساءلة الجناة.
في خضم هذا المشهد، تبدو حرية الصحافة في سوريا على مفترق طرق حاسم، إذ تتقاطع فيها المعاناة اليومية للإعلاميين مع التحولات التكنولوجية التي جعلت من العالم الافتراضي أداة فعالة في نشر الكراهية، ومع أن النداءات الحقوقية تتزايد، فإن المسافة بين الأقوال والأفعال ما زالت واسعة، ولا يزال الصحفي السوري، خصوصًا في شمال البلاد، يواجه خطرًا مزدوجًا: خطر الميدان، وخطر التحريض.
إنّ الدفاع عن حرية الصحافة اليوم لم يعد مجرد شعار حقوقي، بل قضية إنسانية تتعلق بحق الناس في المعرفة والكرامة والعيش في بيئة آمنة، وما لم يتم وضع حد للحملات التحريضية الرقمية ومحاسبة القائمين عليها، فإن دوامة الترهيب ستستمر في تكميم الأصوات التي تحاول نقل الحقيقة من قلب الظلام، لتبقى الكلمة الحرة معلقة بين الخوف والأمل في بلد لم يعرف بعد طعم السلام.










