انتهاكات الحوثي.. القطاع الخاص في صنعاء يختنق وسط تصاعد الجبايات والبطالة
انتهاكات الحوثي.. القطاع الخاص في صنعاء يختنق وسط تصاعد الجبايات والبطالة
تعيش العاصمة اليمنية صنعاء واحدة من أكثر مراحلها الاقتصادية قسوة منذ اندلاع الحرب، حيث تتراكم الأعباء على كاهل السكان والتجار والمستثمرين تحت تأثير الجبايات الحوثية والانخفاض الحاد في القدرة الشرائية للناس. وفي ظل هذا الواقع المأزوم، تتسارع موجة إغلاقات غير مسبوقة للمطاعم والمتاجر والمنشآت الصغيرة، ما يقود إلى نتائج اجتماعية واسعة أبرزها تسريح مئات العمال وفقدان آلاف الأسر مصدر دخلها الوحيد.
اختناق اقتصادي متفاقم
شهدت صنعاء خلال الأسابيع الأخيرة سلسلة من الإغلاقات التي طالت محال تجارية ومطاعم شهيرة، كان آخرها إعلان سلسلة مطاعم رويال باحاج حضرموت إغلاق أحد أكبر فروعها في حي الرقاص بمديرية معين. وجاء هذا الإغلاق نتيجة تراكم ضغوط مالية خانقة، في وقت تزداد فيه أعباء الإيجارات وتكاليف التشغيل وارتفاع أسعار الوقود والمواد الأساسية، إضافة إلى انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين واتساع رقعة الفقر بين السكان وفق صحيفة "عدن الغد".
وبحسب مصادر محلية فإن الإغلاق لم يكن مجرد قرار اقتصادي، بل جاء بعد سلسلة مضايقات وضغوط مباشرة وفرض جبايات متعددة من جهات تابعة للحوثيين، الأمر الذي جعل استمرار النشاط التجاري أمراً بالغ الصعوبة.
إتاوات بلا توقف
تشير شهادات التجار وأصحاب الأعمال إلى أن الجبايات الحوثية أصبحت العبء الأكبر فوق كل الأزمات المعيشية التي تشهدها اليمن، فهناك رسوم تُفرض تحت مسميات مختلفة مثل دعم الجبهات أو الزكاة أو الضرائب أو رسوم النظافة أو التجديد الإداري، وتصل في كثير من الأحيان إلى مبالغ لا يستطيع أصحاب المحلات تحملها، ويرى الكثير من العاملين في القطاع الخاص أن هذه الإتاوات تشبه آلة استنزاف مفتوحة لا تتوقف، وأن رفض دفعها يؤدي غالباً إلى تهديدات مباشرة أو إغلاق المحل بالقوة.
في شارع الستين بصنعاء، يقول محمد، وهو مالك مطعم شعبي، إن الارتفاع المتواصل لأسعار الغاز والوقود والمواد الأساسية لم يعد المشكلة الكبرى، بل أصبحت الإتاوات المفروضة يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً هي التحدي الحقيقي، ويوضح أن الأرباح باتت تتآكل بشكل لا يسمح حتى بتغطية رواتب العمال، مضيفاً أن اللجان التي تزور المحلات تأتي كل مرة بمسمى جديد ومطالبة مالية جديدة.
ويكشف محمد أيضاً عن قيود أخرى تفرضها جماعة الحوثي، منها تحديد ساعات العمل، والتضييق على تشغيل النساء، وفرض إغلاقات مؤقتة تهدف إلى الضغط على أصحاب المحال للامتثال والدفع، الأمر الذي ضيّق مساحة الحركة أمام القطاع الخاص، وأدى إلى خسائر متلاحقة لا يمكن تعويضها بسهولة.
إغلاقات متتالية وتداعيات اجتماعية
لم يقتصر الأمر على مطاعم رويال باحاج حضرموت، إذ سبقته سلسلة مطاعم الكندي للكباب البلدي التي أعلنت قبل أسابيع إغلاق فرعها في شارع 14 أكتوبر بمنطقة حدة بعد تعرض صاحبها لمضايقات وابتزازات من جهات محسوبة على الجماعة، وعلى امتداد العاصمة، تتكرر قصص مماثلة في قطاعات عدة، من تجارة المواد الغذائية إلى ورش التصليح ومحلات الملابس وصالات المناسبات.
المؤلم أن هذه الإغلاقات لا تقتصر تداعياتها على الملاك فحسب، بل تمتد تأثيراتها لتطول شريحة واسعة من العمال الذين يجدون أنفسهم فجأة بلا مصدر رزق، في حالة مطعم رويال باحاج وحده، خسر أكثر من أربعين عاملاً وظائفهم، معظمهم من الشباب الذين تعتمد أسرهم بالكامل على الدخل اليومي، وبحسب مصادر اقتصادية في صنعاء، فإن مئات العمال سرحوا خلال الأشهر الماضية من مطاعم ومحلات تجارية مختلفة، ما يفاقم معدلات البطالة والفقر في مدينة تعاني أصلاً من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث.
نزوح تجاري خارج العاصمة
التضييق المتواصل دفع الكثير من التجار إلى التفكير جدياً في مغادرة صنعاء أو إغلاق أعمالهم بشكل نهائي، يقول فاضل، وهو تاجر مواد غذائية فضل عدم ذكر اسمه الحقيقي، إنه يستعد لنقل نشاطه التجاري إلى عدن أو ربما خارج البلاد بالكامل، ويضيف أن كل أسبوع يشهد زيارة لجنة جديدة تطالب بجبايات مالية أو عينية، وأن رفض الدفع يعرضه لتهديدات وإغلاق المتجر، في حين إعادة فتحه تتطلب دفع مبالغ طائلة لا يقدر عليها.
ويؤكد فاضل أن التعامل الأمني والمالي الذي تفرضه الجماعة جعل البيئة التجارية في اليمن معادية لأي استثمار مهما كان صغيراً، وأن بقاء التجار في السوق أصبح مخاطرة خاسرة تضعهم تحت تهديد مستمر.
مرحلة الانكماش
يرى اقتصاديون في صنعاء أن موجة الإغلاقات الأخيرة ليست مجرد نتيجة مباشرة للوضع المعيشي العام، بل هي مؤشر خطير على دخول الاقتصاد مرحلة أعمق من الانكماش، فالمشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل أكثر من ستين في المئة من الحركة الاقتصادية في العاصمة، تعاني اليوم من انهيار تدريجي بفعل ضعف الطلب وارتفاع التكاليف والضغوط الجبائية.
ويحذر الخبراء من أن استمرار هذه السياسات سيقود إلى شلل شبه كامل للقطاع الخاص في مناطق سيطرة الحوثيين، وهو ما يعني تضخماً أكبر في معدلات الفقر وغياب أي إمكانية لتعافي الاقتصاد، ويشيرون إلى أن الجماعة تتعامل مع الأنشطة الاقتصادية بوصفها مصدراً للجباية لا قطاعاً إنتاجياً يجب الحفاظ عليه، وأن ذلك يقود إلى تآكل ما تبقى من قدرة السوق المحلية على البقاء.
مشاهد يومية لأزمة ممتدة
في شوارع صنعاء، يمكن رؤية آثار الأزمة بشكل ملموس، فالمطاعم التي كانت تعج بالزبائن أغلقت أبوابها، ومحال ملابس عُلقت على واجهاتها لافتات تقول إنها مغلقة إلى إشعار آخر، وآلاف الأسر تعيش حالة من القلق اليومي بشأن الدخل والغذاء والإيجار، ورغم أن سكان المدينة اعتادوا الضغوط الاقتصادية خلال سنوات الحرب، فإن المرحلة الحالية تبدو الأكثر قسوة، إذ تتداخل الأزمة المعيشية مع سياسات الجبايات لتشكل طبقة جديدة من المعاناة تعصف بما تبقى من نشاط اقتصادي هش.
تخضع صنعاء لسيطرة الحوثيين منذ عام 2014، ومنذ ذلك الحين شهدت المدينة تدهوراً اقتصادياً متواصلاً بسبب توقف رواتب موظفي الدولة وانكماش النشاط التجاري وتعطّل المؤسسات الإنتاجية، وتعتمد الجماعة بشكل كبير على الجبايات والإتاوات لتمويل عملياتها، مستهدفة بذلك القطاعات التجارية والخدمية الصغيرة والمتوسطة. وترافق ذلك مع ارتفاع كبير في الأسعار، ونقص حاد في السيولة، وتراجع القدرة الشرائية إلى أدنى مستوياتها، وتشير تقارير اقتصادية محلية ودولية إلى أن العاصمة أصبحت واحدة من أكثر المدن اليمنية تأثراً بانكماش القطاع الخاص، وأن الاستثمارات التجارية تواجه مخاطر يومية مرتبطة بالملاحقات المالية والإدارية، ما يدفع الكثير من التجار للانسحاب أو الانتقال إلى مناطق أخرى أقل ضغطاً، ويعد القطاع التجاري في صنعاء أحد آخر مصادر العمل والدخل المتاحة للسكان، ومع استمرار الضغط عليه تتجه المدينة نحو أفق اقتصادي أكثر قتامة، يزيد من هشاشة الوضع الإنساني ويعمق حالة الفقر المستفحلة بين الملايين من سكانها.









