نزيف مستمر.. كيف تحوّلت حياة ملايين الأطفال الأفغان إلى سباق مع خطر الألغام؟

نزيف مستمر.. كيف تحوّلت حياة ملايين الأطفال الأفغان إلى سباق مع خطر الألغام؟
عملية إزالة أحد الألغام

لا تزال أفغانستان واحدة من أكثر الدول في العالم تلوثا بالألغام والمواد المتفجرة، وفق ما يؤكده صندوق إنقاذ الطفولة في أحدث تقاريره، فبين طرقات القرى الجبلية ومناطق السكن المكتظة والحقول التي كانت يوما مصدر الرزق للعائلات، يتحرك ملايين الأفغان في محيط مشبع بخطر غير مرئي، وأكثر من خمسين مدنيا يقتلون أو يصابون كل شهر بسبب انفجارات ناتجة عن بقايا الحرب، فيما يعيش نحو ستة ملايين وأربعمائة ألف شخص في دائرة التهديد المباشر للمتفجرات.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، وفق ما نشرته "أفغانستان إنترناشيونال" الجمعة، بل تمثل معاناة يومية لعائلات تبحث عن الأمان في بلد تحوّل إلى واحدة من أكثر بيئات العالم تهديدا للأرواح، خصوصا أرواح الأطفال الذين يجدون أنفسهم الضحايا الأكثر هشاشة في دوامة متواصلة من العنف وآثاره المتراكمة 

الأطفال في صدارة الخسائر

يشير صندوق إنقاذ الطفولة إلى أن الأطفال يتعرضون لمخاطر الذخائر المتفجرة بصورة تفوق أي وقت مضى، وأن أفغانستان أصبحت إحدى الدول التي تسجل أعلى معدلات قتل الأطفال أو إصابتهم بسبب الألغام وبقايا المتفجرات، وخلال العام الماضي وحده، سقط أكثر من خمسمائة طفل بين قتيل وجريح جراء انفجارات كان يمكن تفاديها لو توفرت إجراءات حماية فعالة أو جهود تطهير أوسع.

ويعكس تحليل الصندوق حجم المأساة التي يعيشها الأطفال، إذ يمثل الذكور النسبة الأكبر من بين الضحايا بسبب خروجهم المتكرر إلى الحقول والطرقات، بينما تواجه الفتيات خطرا مضاعفا داخل المدارس التي تحولت في بعض الأحيان إلى أهداف مباشرة للهجمات بالعبوات الناسفة في مناطق مختلفة من البلاد.

ضحايا بلا حماية

يسجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية في أفغانستان 3774 إصابة بين المدنيين خلال الفترة الممتدة بين أغسطس 2021 ومايو 2023، وتشير البيانات إلى أن ثلاثة أرباع الإصابات نتجت عن استخدام عشوائي للعبوات الناسفة في مناطق مكتظة بالسكان، حيث يختلط الأطفال والنساء بالعمال والمارة في الأسواق والمساجد والمدارس، مما يجعل حجم الخسائر كبيرا في كل حادثة.

وتكشف هذه الوقائع هشاشة البيئة الآمنة المفترضة في الحياة اليومية للأفغان، حيث باتت أكثر الأماكن اعتيادا مسرحا محتملا لانفجار يمكن أن يبدل مصير أسرة كاملة في لحظة واحدة، وفي مجتمع يعاني من الفقر والنزوح ومحدودية الخدمات، يصبح التعرض للإصابة أو فقدان معيل مخاطرة تهدد استقرار العائلات لأعوام طويلة.

امتداد الخطر إلى خُمس السكان

لا يقتصر تأثير التلوث بالمتفجرات على المناطق التي شهدت مواجهات مباشرة في الماضي، بل يمتد ليؤثر في نحو خُمس سكان البلاد، بمن فيهم النازحون واللاجئون العائدون إلى قراهم، وتعاني العائلات الريفية على وجه الخصوص من مشكلات إضافية بسبب اعتمادها على الزراعة والرعي، وهما نشاطان يجريان غالبا في أراضٍ غير ممسوحة بالكامل أو مشكوك في سلامتها.

وما يزيد من تفاقم الأزمة هشاشة النظام الصحي وغياب العدالة في توزيع خدمات الرعاية، فالمناطق الريفية التي تسجل أعلى نسب الإصابات هي ذاتها التي تملك أقل فرص الوصول إلى مراكز العلاج والجراحة والتأهيل، ويؤدي هذا الخلل إلى ارتفاع معدلات الإعاقة الدائمة وخسائر اقتصادية واجتماعية تترك آثارا بعيدة المدى على المجتمعات المحلية.

نداء عاجل لتوسيع الاستجابة

يشير صندوق إنقاذ الطفولة في تقريره إلى أن نحو أربعة ملايين وأربعمائة ألف شخص بحاجة ماسة هذا العام إلى خدمات متخصصة في مكافحة الألغام، وهو ما يمثل زيادة بنسبة خمسة في المائة مقارنة بالعام السابق، وهذه الزيادة لا تعكس فقط ارتفاع حجم الخطر، بل تقيس أيضا اتساع دائرة المناطق التي باتت تحتاج إلى مسح وإزالة للمتفجرات، رغم الجهود الدولية والمحلية المتواصلة منذ سنوات.

ولا يتوقف خطر المتفجرات عند الإصابات الجسدية، بل يمتد ليولد تداعيات نفسية عميقة لدى الأطفال، فالكثير منهم يعيشون في خوف دائم من المرور على الطرقات أو اللعب في الهواء الطلق، ويواجهون صدمات تمتد آثارها إلى حياتهم المدرسية والاجتماعية، وغالبا ما يؤدي فقدان أحد أفراد العائلة إلى تفاقم المشكلات النفسية والتسرب من التعليم والاضطرار إلى العمل المبكر.

حياة معلقة بين الماضي والمستقبل

يعكس واقع الألغام في أفغانستان قيدا ثقيلا يحول دون تعافي المجتمعات من آثار الحروب المتعاقبة، فبينما تسعى الأسر إلى بناء حياة مستقرة، تظل بقايا الصراع القديم كابحاً أي محاولة للعودة إلى حياة طبيعية. كما تشكل المتفجرات عائقا أمام التنمية الزراعية وإعادة إعمار المناطق المتضررة، إذ تحتاج الحكومات والمنظمات الدولية إلى تخصيص جزء كبير من الموارد لبرامج المسح وإزالة الألغام قبل بدء أي مشروع اقتصادي أو عمراني.

ولا تقتصر المشكلة على الجانب الأمني، بل تتصل أيضا بأزمة الثقة بين السكان والمؤسسات، حيث يشعر كثيرون بأن الدولة والمجتمع الدولي لم يقدما الاستجابة اللازمة لحماية الأرواح، خاصة في القرى البعيدة والمناطق التي تفتقر للبنية التحتية.

واقع يتطلب التزاما دوليا أكبر

يعتمد مستقبل مكافحة الألغام في أفغانستان على استمرار الدعم الدولي وتوفيره بطرق أكثر تنسيقا وتأثيرا، فمشروعات التطهير تحتاج إلى سنوات من العمل المتواصل، كما تتطلب خبرات فنية عالية وتمويلا منتظما، ويؤكد الخبراء أن قطع التمويل أو تقليصه يعيد توسيع نطاق المناطق الخطرة ويجعل حياة مئات الآلاف من الأطفال على المحك.

وتبرز الحاجة إلى نشر برامج توعية مجتمعية تشرح للأهالي والأطفال كيفية التعرف على المتفجرات وتجنب المواقع المشبوهة، إضافة إلى تعزيز قدرة المدارس على توفير بيئة آمنة للتلاميذ في المناطق التي تشهد مستويات مرتفعة من الحوادث.

الصمت يطيل المأساة

تظل المعضلة الكبرى في أن معظم الحوادث التي تقع في أفغانستان لا تحظى بالاهتمام الإعلامي الكافي. ففي ظل الأزمات السياسية والأمنية الواسعة، تصبح قصص الضحايا جزءا من تفاصيل يومية لا تتصدر النقاش العام، ومع غياب الضغط الدولي وتراجع التغطية، تتأخر البرامج الإنسانية ولا تصل بعض المساعدات إلى المناطق الأكثر حاجة.

ومع ذلك، لا تزال المنظمات الإنسانية ترى أن الحد من آثار المتفجرات ليس مجرد مهمة تقنية، بل هو خطوة أساسية لحماية مستقبل الأطفال وفتح المجال أمام المجتمعات للتعافي، فكل لغم يتم نزعه يعني حياة تنجو من احتمال إصابة قاتلة، وكل منطقة يجري تطهيرها تفتح الباب أمام مدرسة تعمل أو حقل يستعيد دوره في إطعام أسرة.

تعد أفغانستان من الدول التي شهدت أطول فترات النزاعات المسلحة المتواصلة في العقود الأخيرة، ما أدى إلى انتشار واسع للألغام والذخائر غير المنفجرة في مساحات كبيرة من أراضيها، وتشير تقديرات منظمات الأمم المتحدة إلى أن مئات المناطق لا تزال مصنفة كحقول خطرة، رغم مرور سنوات على توقف المعارك فيها. وتعتمد البلاد بشكل أساسي على الدعم الدولي لبرامج إزالة الألغام التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، وتشمل عمليات المسح والتطهير والتوعية المجتمعية وإعادة تأهيل المصابين.

 وتؤكد الدراسات أن الاستثمار في إزالة الألغام ينعكس مباشرة على التنمية المحلية وتحسين الأمن الغذائي، إذ يسمح بإعادة استخدام الأراضي الزراعية وفتح الطرقات وتعزيز عودة النازحين إلى مناطقهم، ومع استمرار التحديات السياسية والاقتصادية تبقى مكافحة المتفجرات إحدى الركائز الأساسية لحماية ملايين الأفغان وتحسين فرص الاستقرار والتنمية في البلاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية