ارتفاع عدد الضحايا.. الألغام تعصف بالمدنيين وتدفع المعاهدة الدولية إلى حافة التفكك
ارتفاع عدد الضحايا.. الألغام تعصف بالمدنيين وتدفع المعاهدة الدولية إلى حافة التفكك
عاد الخطر الصامت ليشق طريقه بقوة إلى واجهة المشهد الإنساني العالمي، بعدما كشف تقرير مرصد الألغام الأرضية عن قفزة هي العليا منذ أربع سنوات في عدد ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة خلال 2024.
وجاء التقرير الذي صدر اليوم الاثنين محملاً برسائل تحذير قاسية، إذ تجاوز عدد القتلى والمصابين حاجز الست آلاف حالة، في حصيلة تمثل إشعاراً مؤلماً بأن مساحات واسعة من العالم لا تزال أسيرة موت مختبئ تحت التراب.
من أصل إجمالي الضحايا المسجلين، بلغ عدد القتلى 1945 شخصاً، في حين ارتفع عدد الجرحى إلى 4325، وتشير البيانات إلى أن 90 في المئة من الضحايا كانوا من المدنيين، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال الذين وجدوا أنفسهم ضحايا حرب لم يخوضوها وسلاح لم يختاروا الاقتراب منه، وفق وكالة رويترز.
ارتفاع في سوريا وميانمار
يشير التقرير إلى أن سوريا وميانمار شكلتا بؤرتين رئيسيتين لارتفاع عدد الضحايا، مدفوعتين بتوسع استخدام الألغام واستمرار النزاعات المسلحة. وفي سوريا، عاد الخطر ليهدد السكان الذين رجعوا إلى مناطقهم بعد تغير السلطة وسقوط النظام السابق، لتستقبلهم الذخائر غير المنفجرة بدل الأمان الموعود.
أما في ميانمار، فقد سجلت البلاد أعلى رقم عالمي بواقع يزيد على 2000 واقعة مرتبطة بالألغام، نتيجة الاستخدام المكثف من قبل الجيش الوطني والجماعات المسلحة غير الحكومية، في مؤشر على اتساع نطاق الخطر وانكشاف السكان لسنوات قادمة أمام تهديد قاتل.
يتوقف التقرير عند حقيقة أن الألغام لا تتقيد بالزمن، ولا تنتهي صلاحيتها عند توقف المعارك. فهي تبقى كامنة في الحقول والطرقات والمزارع، تحصد أرواح المدنيين وتمنع المجتمعات من استعادة دورة حياتها الطبيعية، وهذا الخطر لا يقاس فقط بعدد القتلى والجرحى، بل أيضاً بآثاره الاقتصادية والاجتماعية، إذ تتحول المناطق الملوثة بالألغام إلى مساحات مهجورة أو عاجزة عن الإنتاج، ما يفاقم الفقر ويعوق التعافي وإعادة الإعمار.
انسحابات تهدد المعاهدة
على نحو موازٍ للتهديد الميداني، يواجه النظام القانوني الدولي الخاص بحظر الألغام المضادة للأفراد واحدة من أخطر لحظاته منذ إقرار المعاهدة عام 1999، فالتقرير يكشف أن دولاً أوروبية عدة، بينها إستونيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، تستعد للانسحاب القانوني من معاهدة أوتاوا التي تحظر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل هذا النوع من الأسلحة.
ويأتي هذا التوجه في ظل ما تقوله تلك الدول إنه تصاعد للتهديدات العسكرية الروسية، في خطوة يصفها التقرير بأنها تحمل خطراً حقيقياً بتفتيت أحد أهم الإنجازات القانونية في مجال حماية المدنيين.
انضمام أوكرانيا إلى صف المنسحبين من المعاهدة في أواخر يونيو يضيف مزيداً من التعقيد، إذ ترى كييف أن خروجها ضروري لمواجهة الزحف الروسي وإبطاء تقدمه.
ويقول محللون عسكريون إن انسحابها سيعيد الاعتبار العسكري للألغام ضمن استراتيجية الدفاع، لكنه في الوقت نفسه يعيد فتح الباب أمام تكرار المآسي الإنسانية التي كان العالم يأمل أنه أغلق صفحتها.
معاناة رغم المواثيق
رغم أن مئة وستاً وستين دولة ملتزمة بالمعاهدة، وهو ما يمثل 85 في المئة من دول العالم، فإن الالتزام النظري لا ينعكس دائماً في جهود عملية كافية لإزالة الألغام ورعاية الضحايا، فالتقرير يرصد تراجعاً ملاحظاً في التمويل الدولي المخصص لبرامج إزالة الألغام، مشيراً إلى أن تخفيضات العديد من الدول المانحة، ومنها الولايات المتحدة، أدت إلى تقليص الدعم الموجه للناجين وإيقاف عدد من برامج العمل الإنساني التي كانت فاعلة في السنوات الماضية، ويعني ذلك أن مخاطر الألغام لا تتوسع بفعل زرعها فقط، بل أيضاً بسبب عجز المجتمع الدولي عن التعامل مع الإرث القاتل المتروك حول العالم.
من المقرر أن تعقد الدول الأطراف في المعاهدة اجتماعاً حاسماً هذا الأسبوع في جنيف، في محاولة لوقف التراجع في الالتزامات الدولية وحماية ما تبقى من هيكل الاتفاق، ويرى خبراء أن الاجتماع قد يكون مفصلياً، فإما أن ينجح في إعادة تأكيد أهمية المعاهدة ودورها في حماية المدنيين، أو يترك المجال لموجة انسحابات تهدد بفتح فصل جديد من سباق التسلح في مجال الألغام.
وفي مواجهة هذا المشهد المعقد، يجدد النشطاء والمنظمات الإنسانية دعواتهم لضرورة الالتزام بحظر عالمي على الألغام المضادة للأفراد، باعتبارها سلاحاً لا يميز بين مقاتل ومدني، ولا يتوقف عن القتل بانتهاء الصراع، ويؤكد هؤلاء أن المعركة ضد الألغام ليست مجرد جهد تقني، بل هي جزء من معركة أخلاقية أوسع لحماية كرامة الإنسان وحقه في حياة آمنة لا تهددها أدوات قتل خفية.
اختبار أخلاقي وسياسي
يضع التقرير المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وسياسي، فالألغام ليست مجرد ذخائر مهملة، بل انعكاس مباشر لغياب الإرادة الحقيقية لإنهاء معاناة المدنيين في مناطق الصراع، ومع تزايد النزاعات، وتراجع الالتزام بالمعاهدة، وتقلص التمويل، يبدو أن العالم يقف أمام مفترق طرق قد يحدد شكل المستقبل الإنساني لعقود.
دخلت معاهدة حظر الألغام المضادة للأفراد حيز التنفيذ عام 1999، وشكلت علامة فارقة في تطور القانون الدولي الإنساني بعد عقود من المطالبة بمنع هذا السلاح الذي يواصل حصد الأرواح حتى بعد توقف الحروب، وتلزم المعاهدة الدول الأطراف بحظر تام لاستخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام، وبالعمل على إزالة الألغام من أراضيها وتقديم الدعم الكامل للضحايا.
ورغم أن معظم دول العالم انضمت إليها، فإن دولاً مؤثرة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، لم تصادق عليها بعد، وعلى مدى أكثر من عقدين أسهمت المعاهدة في خفض كبير لاستخدام هذا السلاح، لكن النزاعات الحديثة وعودة بعض الدول للنظر في انسحابها أعاد المخاوف من فقدان أحد أهم الإنجازات الإنسانية التي رُسمت لحماية المدنيين في زمن الحرب.











