أزمة "سانشار ساثي".. 1.2 مليار هندي بين حماية الأمن الرقمي وانتهاك الخصوصية
بعد موجة اعتراضات حقوقية
أشعلت الحكومة الهندية أزمةً وطنية واسعة بعد إصدارها أمراً يُلزم مُصنّعي الهواتف الذكية بتثبيت تطبيق حكومي للأمن السيبراني مُسبقاً على جميع الأجهزة الجديدة، حيث أصدرت وزارة الاتصالات القرار عبر توجيه رسمي يُعطي الشركات مهلة 90 يوماً، ما يفجّر موجة غضب سياسي وشعبي بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية، خصوصاً أن الهند تُعد من أكبر أسواق الهواتف المحمولة في العالم.
وأكدت وزارة الاتصالات أن تطبيق Sanchar Saathi "سانشار ساثي" ضروريٌ لحماية 1.2 مليار مستخدم للهواتف الذكية في الهند من عمليات الاحتيال والسرقة، في حين تُنذر جماعات الخصوصية من أنّ الأمر يُجبر المواطنين على التخلي الإجباري عن موافقتهم الرقمية، ويفتح الباب أمام أشكال جديدة من الرقابة على الهواتف.
وأرسلت الحكومة -قبل انتشار الجدل- إشعاراً مباشراً للشركات الخاصة يفرض تفعيل التطبيق على أجهزة جديدة ومستعملة من خلال تحديثات برمجية، ويُلزم الشركات بضمان "عدم تعطيل وظائف التطبيق"، وهو ما يُحوّل المنصة الرقمية الحكومية إلى عنصر ثابت داخل نظام التشغيل دون قدرة المستخدمين على إزالته.
غضب المؤسسات الحقوقية
فجرت هذه الخطوة ردود فعل متسارعة داخل المجتمع المدني، حيث حذر خبير السياسات الرقمية نيخيل باهوا من أن تطبيقاً مُثبّتاً داخل طبقة نظام التشغيل "يمكنه القيام بأكثر من تتبّع المواقع"، مشيراً إلى إمكانية وصوله للرسائل والصوت والصور، وأكد أن الحكومة أعفت نفسها من قانون حماية البيانات الشخصية الرقمية لعام 2023، وهو ما يجعل استخدام البيانات بلا أساس قانوني يمنع جمعها.
وشبه المحامي ومؤسس مؤسسة "حرية الإنترنت" أبار غوبتا هذا الإجراء بـ"إغلاق باب المنزل"، مؤكداً أنّ المواطن من حقه الأمان والخصوصية، وأن فرض تطبيق ذي صلاحيّات خاصة على كل هاتف جديد يعني حرمان الأشخاص من السيطرة على حيواتهم الرقمية.
وأثارت المعارضة السياسية العلنية القضية على نطاق واسع، حيث كتبت الأمين العام في حزب المؤتمر بريانكا غاندي أن التطبيق "أداة تجسس"، مشيرة إلى "الخيط الرفيع بين مكافحة الاحتيال ومعرفة ما يفعله كل مواطن هندي على هاتفه".
موقف الشركات الكبرى
أعلنت شركات التكنولوجيا الكبرى، ومنها آبل وجوجل، أنها لن تمتثل للأمر الحكومي بسبب مخاوف تتعلق بخصوصية أنظمة التشغيل وانتهاك سياساتها الداخلية، وأبلغت الشركتان وسائل الإعلام أن التوجيه الحكومي يتعارض مع قواعدهما التي تمنع تثبيت تطبيقات الحكومات أو الجهات الخارجية قسرياً.
كما واجهت الحكومة معارضة داخل البرلمان نفسه، حيث اتهم نوّاب المعارضة حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بانتهاك الحق الأساسي في الخصوصية، وهو ما أشعل نقاشات حادّة داخل المؤسسة التشريعية.
وأعلنت وزارة الاتصالات لاحقاً تراجعها عن الأمر، وأشارت في بيان رسمي إلى "تزايد الإقبال" على التطبيق، مؤكدة أن الحكومة "قررت عدم جعل التثبيت المسبق إلزامياً"، وتُضيفُ أن المستخدمين يمكنهم حذف التطبيق متى أرادوا، وأنه مُصمم حصرياً لحماية المواطنين من "الجهات الخبيثة".
وصرح وزير الاتصالات، جيوتيراديتيا سينديا بأن التطبيق "طوعي تماماً"، مُشيراً إلى قدرة أي مستخدم على إزالته، لكن هذا التصريح يتعارض مع نص التوجيه الأصلي الذي ينص على عدم إمكانية تعطيل وظائف التطبيق.
وكشفت تصريحات الوزير عن حالة من الغموض، فبينما يُؤكد الطوعية، تُشيرُ الوثائق المتداولة إلى إلزامية كاملة، وهو ما يزيد الشكوك حول حجم التدخل وصلاحيات الوصول إلى الأجهزة.
التوسع المحتمل
حذرت مجموعات الخصوصية من أن قرارات التراجع قد تكون مؤقتة، وأنه لا يمكن إغلاق الملف قبل صدور التوجيه القانوني الرسمي، حيث وصفت مؤسسة "حرية الإنترنت" الموقف بأنه "تفاؤل حذر"، مؤكدة ضرورة الانتظار لحين نشر نسخة قانونية منقّحة بموجب قواعد الأمن السيبراني لعام 2024.
وعبر خبراء آخرون عن أن "تطبيقات الأمن السيبراني يمكن أن تصبح أيضاً تطبيقات للثغرات السيبرانية"، محذرين من أن ربط بيانات كل مستخدم بهاتفه داخل منصة واحدة "يخلق نقطة فشل واحدة" يمكن استغلالها من قبل القراصنة أو جهات سيئة النية.
وتُعيدُ التطورات الأخيرة فتح ملف المراقبة الرقمية في الهند، ويذكر تقرير نشرته "نيويورك تايمز" بأن آبل سبق أن أبلغت بعض مستخدمي آيفون في المعارضة بأن أجهزتهم ربما خضعت لمراقبة "برعاية الدولة"، مشيرة إلى شراء حكومات، منها الحكومة الهندية، إمكانية الوصول إلى برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي.
وتُظهرُ قائمة بمئات الأهداف الهندية، سُرّبت عام 2021، أن قائمة المراقبة شملت سياسيين وصحفيين ونشطاء ووزراء من حزب مودي نفسه، وحلت لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها المحكمة العليا عام 2022 بعد "عدم تعاون الحكومة"، كما قال رئيس المحكمة آنذاك ن. ف. رامانا.
قرارات مشابهة
تُشيرُ التغطيات كذلك إلى أن روسيا بدأت مؤخراً تحميل تطبيق حكومي مسبقاً يُدعى "ماكس" على هواتف المواطنين، وهو ما أثار مخاوف من أنه أداة مراقبة جماعية، في تشابه مباشر مع الجدل الهندي.
وقد أعلنت الحكومة أن التطبيق الذي أُطلق في يناير جمع أكثر من 14 مليون عملية تنزيل، وسجّل ما يصل إلى 600 ألف عملية تسجيل جديدة خلال يوم واحد، في حين تُوضح بيانات "أسوشيتد برس" أنه ساعد في استعادة 700 ألف جهاز مفقود منذ إطلاقه، وأنه يجمع معلومات حول نحو 2000 حادثة احتيال إلكتروني يومياً.
لا تقتصر القضية على فرض تطبيق واحد، بل تمتد إلى بنية بيانات تتوسع منذ سنوات، حيث تجمع الحكومة مجموعات البيانات المختلفة وتربطها دون "صوامع" أو حواجز داخلية، وهو ما مهد لأشكال احتيال استغلت المعلومات الشخصية للضحايا.
ويُحذرُ خبراء من أن الهواتف تُعد "مساحتنا الشخصية"، وأن سحب حق المستخدم في التحكم بما يُثبت عليها يمثل انتهاكاً واضحاً للحق في الخصوصية والموافقة الحرة.
وأظهر تقرير لمنصة "تك كرانش" الأمريكية أن شركات مثل آبل لم تنضم إلى مجموعة العمل الحكومية المختصة بالمبادرة، في حين عبّرت شركات أخرى عن شكوك حول جدوى فرض تطبيق دائم على مستوى النظام دون سند قانوني.
وتُشيرُ بيانات "سينسور تاور" إلى أن عدد مستخدمي المنصة النشطين شهرياً تجاوز 3 ملايين في نوفمبر، مع ارتفاع حركة الزيارات بنسبة تفوق 49%، وهو ما يعكس اهتماماً عاماً متزايداً، لكن لا يُلغي المخاوف الحقوقية.
ويُظهرُ الجدل حول "سانشار ساثي" صراعاً واضحاً بين سعي الدولة لتعزيز الأمن السيبراني وبين حماية الحقوق الرقمية للمواطنين، وبين أوامر حكومية تُلزم وتراجعات تؤكد الطوعية، وبين شركات دولية ترفض ومؤسسات حقوقية تحذّر، يبقى حق الخصوصية في قلب واحدة من أوسع الأزمات التكنولوجية التي شهدتها الهند في السنوات الأخيرة.











