بعد إنفاق 144.7 مليار دولار.. واشنطن تعترف بفشل مشروع إعادة إعمار أفغانستان

بعد إنفاق 144.7 مليار دولار.. واشنطن تعترف بفشل مشروع إعادة إعمار أفغانستان
قوات أمريكية خلال الانسحاب من أفغانستان- أرشيف

كشف التقرير النهائي الصادر عن مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان عن حصيلة صادمة لواحد من أكبر مشاريع إعادة البناء التي تبنتها الولايات المتحدة خارج حدودها خلال العقود الأخيرة، مؤكدا أن نحو 144.7 مليار دولار أنفقت بين عامي 2002 و2021 في محاولة لإعادة تشكيل الدولة الأفغانية دون أن تنجح الجهود في بناء نظام ديمقراطي أو مؤسسات مستقرة. 

ويأتي هذا التقييم بعد سنوات من المتابعة الميدانية والمراجعات المالية التي أجراها المكتب منذ تأسيسه، والتي أظهرت بوضوح حجم الهدر والفساد وضعف التخطيط.

وتستند معظم المعلومات الواردة في التقرير إلى ما نشرته شبكة "سي بي إس نيوز" الأمريكية السبت، والتي سلطت الضوء على مضمون الوثيقة النهائية التي جمعت كامل أعمال المكتب على مدى سنوات، موضحة أن التقرير يعرض بجلاء إخفاقات متراكمة كانت تعيق تقدم مشروع الإعمار منذ بداياته.

الفساد يقوض كل الجهود

أشار المفتش العام بالإنابة جين ألويس إلى أن أكبر التحديات التي واجهت مشروع الإعمار كانت الفساد الذي انتشر في كل مفاصل الدولة الأفغانية السابقة، مؤكدا أن هذا الفساد تحوّل إلى بنية موازية عطلت جهود الأمن والتنمية، وقال خلال لقائه بالصحفيين في فعالية نظمتها “ديفنس رايترز غروب” إن الفساد كان العائق الأول أمام أي تغيير مستدام، واصفا الحكومة الأفغانية السابقة بأنها أشبه بمؤسسة للجريمة الاقتصادية، ورغم مئات البرامج والمساعدات، لم تتمكن الولايات المتحدة من بناء مؤسسات قوية قادرة على الصمود أمام التحديات الأمنية والسياسية.

أوضح التقرير أن المكتب كان يكشف منذ عام 2012 عن ثغرات نظامية داخل قوات الأمن والدفاع الأفغانية، إلا أن أجزاء كبيرة من هذه التقارير كانت تصنف سرية من قبل الحكومة الأمريكية، وأكد ألويس أن نشر هذه البيانات كان يواجه باستمرار محاولات للتعتيم، مما أدى إلى تعطيل النقاش العام وإعاقة اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. وترى الهيئة أن غياب الشفافية كان من بين العوامل التي جعلت واشنطن غير قادرة على تقييم مدى التقدم الحقيقي على الأرض.

ورغم أن التقرير لم يتناول الانسحاب الأمريكي في أغسطس 2021 بشكل مباشر، إلا أنه قدر قيمة المعدات والمنشآت التي تركتها القوات الأمريكية في أفغانستان بما يصل إلى 38.6 مليار دولار، ما يعكس حجم الخسارة الإضافية التي تكبدتها واشنطن عقب الخروج السريع من البلاد، ويشير ألويس إلى أن غياب التخطيط الواضح للانسحاب أدى إلى ترك أصول ضخمة، بعضها كان في حالة جيدة وكان يمكن نقله أو التخلص منه بطريقة أفضل.

كشف المفتش العام أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن لم تتعاون مع الهيئة لمدة عام كامل بعد الانسحاب، بحجة أن صلاحيات المكتب انتهت بخروج القوات الأمريكية، رغم استمرار تدفق الأموال إلى برامج المساعدات داخل أفغانستان، واستأنفت وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية تعاونها مع المكتب بعد ضغوط من الكونغرس، مما سمح بمراجعة ملفات إضافية كانت معلقة، ويرى ألويس أن غياب التنسيق بعد الانسحاب أضعف القدرة على تقييم الخسائر وإصلاح الاختلالات.

هيئة رقابية بإنجازات واسعة

تأسست هيئة التفتيش الخاصة بإعادة إعمار أفغانستان بقرار من الكونغرس عام 2008، وتمكنت خلال سنوات عملها من الكشف عمّا لا يقل عن 26 مليار دولار من الفساد والهدر وسوء الاستخدام. كما ساهمت في تحقيق 4.6 مليار دولار من التوفير المباشر للدولة عبر وقف مشاريع فاشلة أو تصحيح مسارات أخرى، ورغم هذا الدور الرقابي الواسع، فإن المكتب يستعد لإغلاق أبوابه في 31 يناير المقبل، بعدما أنهى المهمة التي أنشئ من أجلها عقب انسحاب القوات الأمريكية.

حذر ألويس من أن غياب جهاز رقابي مشابه في مناطق نزاع أخرى مثل غزة أو أوكرانيا قد يؤدي إلى تكرار السيناريو الأفغاني، مؤكدا أن وجود رقابة فعالة ضروري لحماية أموال دافعي الضرائب وضمان عدم تحول برامج المساعدات إلى مصادر للفساد أو الاستغلال السياسي، ويرى أن الدروس المستخلصة من أفغانستان يجب أن تكون مرجعا لأي مشاريع إعادة إعمار مستقبلية تتورط فيها الولايات المتحدة أو شركاؤها الدوليون.

ويوضح التقرير النهائي أن الفشل لم يكن نتيجة عامل واحد، بل تراكم جملة من السياسات الخاطئة التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من بين هذه الأسباب ضعف فهم الواقع الأفغاني وتعقيداته القبلية والسياسية، وتدفق أموال ضخمة بسرعة تفوق قدرة المؤسسات المحلية على استيعابها، إضافة إلى تضارب الأولويات بين الجيش والوكالات المدنية الأمريكية، ويشير التقرير إلى أن حجم التمويل الهائل، بدلا من أن يؤدي إلى تقدم سريع، خلق بيئة مثالية لانتشار الفساد وظهور شبكات نفوذ محلية كانت تتنافس على الحصول على عقود وإعانات مالية.

الأثر على المجتمع الأفغاني

على الرغم من أن برامج الإعمار تضمنت مشاريع ضخمة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، فإن كثيراً من هذه المشاريع تعثر أو توقف بسبب غياب الإدارة الجيدة أو انهيار المؤسسات الحكومية، وتؤكد مراجعات المكتب أن المواطنين الأفغان كانوا في كثير من الأحيان المتضرر الأكبر، إذ تحولت بعض المشاريع إلى هياكل غير مكتملة، أو خدمات لا تعمل، أو مبانٍ خاوية لا تجد من يديرها أو يمول تشغيلها. ولم يتمكن السكان من الاستفادة من مليارات الدولارات التي كان يفترض أن تساهم في إعادة بناء بلد أنهكته الحرب.

قبل أيام من انتهاء مهام الهيئة، يؤكد التقرير أن من الضروري الاستفادة من هذا السجل الطويل من الإخفاقات والدروس، ويشير إلى أن وجود الرقابة وحده لم يكن كافيا لمنع الفساد أو تحسين فاعلية البرامج، لأن المشكلة الأساسية كانت في غياب استراتيجية متماسكة تضمن محاسبة حقيقية وتخطيطا يستند إلى واقع المجتمع الأفغاني، ويرى المختصون أن إغلاق الهيئة يجب ألا يكون نهاية النقاش، بل بداية مراجعة أوسع لسياسات التدخل الخارجي وإعادة الإعمار.

بدأ التدخل الأمريكي في أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، ومع سقوط نظام طالبان في أواخر 2001 تبنت واشنطن وحلفاؤها خطة واسعة لإعادة بناء الدولة الأفغانية، وخلال سنوات الحرب التي امتدت قرابة 20 عاما ضخت الولايات المتحدة أضخم حزمة مساعدات وإعادة إعمار في تاريخها خارجياً، تجاوزت 144 مليار دولار، إضافة إلى مئات مليارات الدولارات التي أنفقت على العمليات العسكرية، ومع ذلك واجهت الجهود سلسلة من العراقيل أبرزها الفساد وضعف مؤسسات الدولة والانقسامات السياسية وتعثر برامج تدريب الجيش الأفغاني.

وبدأت مؤشرات الانهيار تظهر تدريجيا قبل الانسحاب، ثم بلغ الانهيار ذروته بسقوط الحكومة السابقة وسيطرة طالبان على كابول في أغسطس 2021، ويعتبر التقرير النهائي للمفتش العام أبرز وثيقة تحليلية شاملة ترصد فشل مشروع الإعمار من الداخل، وتقدم رؤية نقدية لواحد من أكثر التدخلات الأمريكية تكلفة وتعقيدا في القرن الـ21.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية