عام على رحيل الأسد.. تقرير يوثق مقتل نحو 200 ألف مدني بينهم 45 ألفاً تحت التعذيب
عام على رحيل الأسد.. تقرير يوثق مقتل نحو 200 ألف مدني بينهم 45 ألفاً تحت التعذيب
أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً موسعاً بعد مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد، يعيد فتح ملف الانتهاكات التي رافقت سنوات الحكم، ويضع مسار العدالة الانتقالية أمام اختبار تاريخي يتجاوز حدود السياسة إلى سؤال أخلاقي وإنساني يتعلق بحق الملايين في معرفة الحقيقة.
ويأتي التقرير المنشور، اليوم الاثنين، على موقع المنظمة الرسمي ليقدم حصيلة محدثة لما أمكن توثيقه خلال العام الماضي عقب اتساع القدرة على الوصول إلى مناطق وأشخاص كانوا بعيدين عن متناول المراقبة بفعل الخوف أو الرقابة الأمنية.
ويؤكد التقرير أن ذكرى السقوط ليست مناسبة للاحتفال بقدر ما هي لحظة مزدوجة تجمع بين استحضار الألم والمطالبة بالمساءلة، وأن أي بحث عن استقرار مستقبلي في سوريا سيظل ناقصاً ما لم يُكشف مصير المفقودين ويجري إنصاف الضحايا ومحاسبة كل من تورط في ارتكاب الجرائم.
ارتفاع حصيلة الضحايا
التقرير يعرض أرقاماً مفزعة تشير إلى حجم الكارثة الإنسانية التي خلفها النظام السابق في سوريا على امتداد سنوات النزاع، فقد قتل النظام بحسب توثيق الشبكة حتى نهاية عام 2025 ما مجموعه 202021 مدنياً بينهم 23138 طفلاً و12036 سيدة.
وتشير البيانات إلى مقتل 662 من العاملين في القطاع الطبي و559 من الكوادر الإعلامية ممن سقطوا وهم يحاولون إنقاذ حياة الآخرين أو نقل الحقيقة، كما لا يزال 160123 شخصاً في عداد المختفين قسرياً بينهم 3736 طفلاً و8014 سيدة، وهي أرقام تعكس عمق الجرح المجتمعي الذي لا يزال مفتوحاً حتى اليوم.
وتظهر الإحصاءات أن 45032 شخصاً قتلوا تحت التعذيب، بينهم 216 طفلاً و95 سيدة، في صورة أخرى لآلة القمع التي طالت مختلف الفئات دون تمييز.
استهداف البنى المدنية
يستعرض التقرير أيضاً الأضرار التي لحقت بالمراكز الخدمية الأساسية خلال سنوات الصراع، فقد أحصي 566 اعتداءً على منشآت طبية و1287 اعتداءً على مدارس وروضات أطفال، إضافة إلى 1042 اعتداءً على أماكن عبادة. كما وثقت الشبكة استخدام 81954 برميلاً متفجراً أسفرت عن مقتل 11092 مدنياً.
وبحسب التقرير شن النظام 217 هجوماً كيميائياً خلفت 1514 قتيلاً و11080 مصاباً، وشن 254 هجوماً بذخائر عنقودية تسببت في مقتل 835 شخصاً، إلى جانب 52 هجوماً بأسلحة حارقة، وأسهمت هذه الاعتداءات المتكررة في نزوح 6.8 مليون شخص داخل البلاد، ولجوء نحو 7 ملايين إلى الخارج، وهو ما شكل واحدة من أوسع موجات النزوح في التاريخ الحديث.
شبكة من المتورطين
لا يتوقف التقرير عند حجم الانتهاكات بل يتناول أيضاً البنية التي سمحت بحدوثها، فقد وثقت الشبكة أكثر من 16200 شخص شاركوا في عمليات الاعتقال والتعذيب والقصف والانتهاكات المختلفة، منهم 6724 من القوات الرسمية و9476 من عناصر الميليشيات الرديفة.
ويشير التقرير إلى أن مسؤولية الانتهاكات لا تقتصر على الأجهزة الأمنية والعسكرية، بل تمتد إلى قضاة ومحاكم استثنائية لعبت دوراً محورياً في شرعنة الاعتقال التعسفي، وإلى موظفين مدنيين ساعدوا في إخفاء مصير المعتقلين والتلاعب بالسجلات، وإلى رجال أعمال وفنانين وإعلاميين قدموا غطاءً سياسياً واجتماعياً للنظام وعملوا على تلميع صورته أمام الداخل والخارج.
تؤكد الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن حجم الانتهاكات التي ارتكبها النظام يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب سارت بوتيرة منهجية ومنظمة.
وبناءً على اتفاقية اللاجئين لعام 1951 فلا يحق لمرتكبي هذه الجرائم أو من توجد أسباب جدية للاعتقاد بتورطهم فيها الحصول على صفة لاجئ وفقاً للمادة التي تستثني مرتكبي الجرائم الدولية والأعمال المناقضة لمبادئ الأمم المتحدة.
ويشير التقرير إلى إمكانية منح هؤلاء حماية مؤقتة فقط دون إسقاط الملاحقة القانونية ودون إهمال مبدأ عدم الإعادة القسرية.
المساءلة الدولية
يدعو التقرير الحكومة الروسية إلى مراجعة قرارها بمنح اللجوء لبشار الأسد باعتباره قراراً يتعارض مع الالتزامات القانونية الدولية، ويمثل شكلاً من أشكال توفير ملاذ آمن لشخص متهم بارتكاب جرائم جسيمة بحق المدنيين، ويشدد التقرير على ضرورة تعاون موسكو مع الجهود القضائية الدولية والوطنية في سبيل تحقيق العدالة، ومنها النظر مستقبلاً في تسليم الأسد إلى جهة قضائية مختصة سواء كانت سورية أو دولية.
كما يشير إلى ضرورة اعتراف روسيا بجانب من مسؤوليتها عن الأضرار التي لحقت بالسوريين نتيجة تدخلها العسكري، والمشاركة في جهود إعادة الإعمار بوصف ذلك التزاماً قانونياً وأخلاقياً تجاه ملايين الضحايا.
يحمل التقرير الأمم المتحدة والدول الأعضاء مسؤولية ممارسة ضغط فعلي لمنع تحويل مفهوم اللجوء إلى غطاء يمنح الإفلات من العقاب.
ويدعو إلى تفعيل الآليات الدولية الخاصة بسوريا ودعم أي مسار قضائي يسهم في محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ومنها الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء آلية قضائية خاصة في حال تعذر الوصول إلى العدالة الوطنية.
مهام الحكومة الحالية
يدعو التقرير السلطات السورية الراهنة إلى تبني مسار عدالة انتقالية شامل يشمل كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي وضمانات عدم التكرار، ويشدد على ضرورة الانضمام إلى الصكوك الدولية الأساسية مثل نظام روما الأساسي والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وتعديل التشريعات التي كرست الاستبداد والتمييز والمصادرات.
كما يدعو إلى إصلاح عميق للجهاز القضائي يضمن استقلاليته وتخليصه من القضاة الذين تواطؤوا في الانتهاكات، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يضمن إخضاعها لرقابة مدنية وقضائية فعالة واعتماد معايير واضحة لاستبعاد المرتكبين من مواقع السلطة.
ويتناول التقرير أهمية جبر الضرر للضحايا من خلال برامج شاملة تشمل التعويض المالي والدعم النفسي والاجتماعي والاعتراف الرسمي، إضافة إلى وضع خطط شفافة لإعادة إعمار المناطق المتضررة مع ضمان حقوق السكن والملكية ومنع تثبيت آثار المصادرات غير المشروعة أو سياسات التغيير الديموغرافي، كما يحذر من أي عفو شامل عن الجرائم الدولية، ويؤكد أن مكافحة الإفلات من العقاب جزء أساسي من العقد السياسي الذي تسعى سوريا الجديدة إلى بنائه.
ويشدد التقرير على ضرورة حماية الأرشيف والأدلة المتعلقة بالجرائم عبر تشريعات تجرم الإتلاف والإخفاء وإنشاء وحدات مختصة بالأرشفة والتوثيق بالتنسيق مع الآليات الدولية، إضافة إلى إعلان الاستعداد للتعاون مع لجان التحقيق الدولية والسماح بالوصول إلى الشهود والمعلومات، كما يشجع على إشراك الضحايا وعائلاتهم ومنظمات المجتمع المدني في صياغة سياسات العدالة الانتقالية وبرامج إصلاح المؤسسات.
دعوة لحفظ الذاكرة
يختتم التقرير بدعوة المؤسسات الإعلامية والجامعات ومراكز الأبحاث إلى الاستثمار في إنتاج مواد توثيقية تحفظ الذاكرة الجماعية وتواجه محاولات الإنكار، وإلى إجراء دراسات معمقة حول تجارب العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات، ما يغني النقاش العام ويقدم تصوراً علمياً لخطوات بناء سوريا أكثر عدلاً واستقراراً.
شهدت سوريا منذ عام 2011 واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية في القرن الحالي، إذ تراكمت انتهاكات ممنهجة شملت القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير والقصف الواسع النطاق واستخدام الأسلحة المحظورة، ومع سقوط النظام في يناير 2025 باتت قضية العدالة والمساءلة في صدارة النقاش العام، مدفوعة بتوقعات اجتماعية واسعة بإنصاف الضحايا والكشف عن مصير مئات الآلاف من المختفين قسرياً.
وتظهر تجارب العدالة الانتقالية حول العالم أن تحقيق المصالحة المستدامة يرتبط دائماً بكشف الحقيقة ومحاسبة الجناة وإصلاح المؤسسات التي شاركت في الانتهاكات، وفي الحالة السورية تتضاعف التحديات بسبب حجم الجرائم وتعدد الجهات المتورطة وتعقيد المشهد السياسي والإقليمي.
ومع ذلك يشير الخبراء إلى أن توثيق الجرائم وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية في صياغة مستقبل البلاد يمثلان خطوة أولى ضرورية نحو بناء دولة قادرة على حماية مواطنيها واستعادة الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة.











