أزمة تمويل تضرب مفوضية حقوق الإنسان وتحد من قدرتها على حماية المدنيين
أزمة تمويل تضرب مفوضية حقوق الإنسان وتحد من قدرتها على حماية المدنيين
دخلت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مرحلة غير مسبوقة من الضعف التشغيلي، بعدما أعلن مفوض الأمم المتحدة السامي فولكر تورك، الأربعاء، أن المفوضية باتت في وضع التشبث بالبقاء نتيجة التخفيضات الكبيرة في التمويل من الجهات الدولية المانحة.
ويأتي هذا الانكماش المالي العميق في وقت تتزايد فيه انتهاكات حقوق الإنسان وتتوسع رقعة الأزمات والنزاعات الممتدة، ما يجعل الفجوة بين الاحتياجات والموارد أكبر من أي وقت مضى.
كشف تورك أن المفوضية تواجه عجزا ماليا يبلغ 90 مليون دولار خلال العام الجاري، وهو ما أجبرها على تسريح 300 موظف، بينهم خبراء ومختصون في الرصد والتحقيقات والشؤون القانونية.
ويشكل هذا الانكماش أكبر تقليص في كوادر المفوضية منذ سنوات طويلة، وينعكس مباشرة على قدرتها في مراقبة الانتهاكات، ورفع التقارير، ودعم آليات المساءلة الدولية، وفق وكالة رويترز.
تراجع الوجود الدولي
أشار تورك إلى أن المفوضية اضطرت إلى تقليص العمل الأساسي في عدة مناطق تشهد تصاعدا كبيرا في الانتهاكات، من بينها كولومبيا وجمهورية الكونجو الديمقراطية وميانمار وتونس.
وقال إن بعض البرامج أغلقت بالكامل، فيما تراجعت زيارات المقررين الخاصين وتوقف جزء من بعثات تقصي الحقائق التي تعد واحدة من أهم أدوات الأمم المتحدة في توثيق الانتهاكات الخطيرة.
أوضح تورك أن أزمة نقص التمويل أجبرت المفوضية على تأجيل جلسات مراجعة الدول الأطراف في معاهدات حقوق الإنسان، التي تعد جزءا أساسيا من أدوات المساءلة الدولية.
وذكر أن عدد مراجعات الدول انخفض من 145 إلى 103، ما يترك أكثر من 40 دولة من دون تقييم دوري لوضع حقوق الإنسان فيها، ويؤكد خبراء أن هذا التراجع يجعل الانتهاكات أكثر قابلية للتمدد، خصوصاً في بيئات الصراع والنزاعات المسلحة.
تزايد مقلق للانتهاكات
ربط تورك بين تراجع التمويل وزيادة الانتهاكات في عدد من بؤر التوتر، وقال إن السودان يشهد انهيارا شبه كامل في الضوابط الإنسانية والحقوقية، فيما تتواصل في غزة أزمة إنسانية وحقوقية تشكل إحدى أكثر الأزمات خطورة في السنوات الأخيرة، وفي أوكرانيا، أكد تورك أن استخدام روسيا للأسلحة القوية بعيدة المدى أدى إلى ارتفاع حاد في أعداد الضحايا المدنيين، حيث سجلت المفوضية زيادة بنسبة 24 في المئة في أعداد القتلى والمصابين المدنيين مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وقال تورك إن الانكماش المالي الكبير لا يعرّض فقط عمل المفوضية للخطر، بل يقوض منظومة حقوق الإنسان الدولية بأكملها، التي تعتمد على وجود مؤسسات قوية قادرة على الرصد والدعم والمساءلة، وأضاف أن غياب التمويل الكافي يضعف قدرة الأمم المتحدة على الاستجابة للنزاعات الممتدة وعلى دعم المنظمات المحلية التي تُعد خط الدفاع الأول في المجتمعات المتضررة.
وتتفاقم أزمة التمويل مع القرار الأمريكي بتقليص الإسهامات المتوقعة في ميزانية عمليات حفظ السلام للفترة 2025 2026، فقد كان من المفترض أن تسهم الولايات المتحدة بمبلغ 1.3 مليار دولار من إجمالي ميزانية قدرها 5.4 مليار دولار، لكنها أبلغت الأمم المتحدة بأنها ستدفع نصف المبلغ فقط بقيمة 682 مليون دولار.
يرتبط القرار الأمريكي بسياسة الرئيس دونالد ترامب الذي عاد إلى نهج يقوم على تقليص المساعدات الخارجية والإنفاق الدولي، والتركيز على أولويات الأمن القومي والاقتصاد الداخلي للولايات المتحدة، ويرى مراقبون أن هذا التوجه يضع الأمم المتحدة أمام أكبر تحد مالي تواجهه منذ سنوات، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى وجود ميداني طويل الأمد في مناطق النزاعات الممتدة، مثل إفريقيا والساحل والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.
تأثيرات تمتد للمنظمات المحلية
لم تقتصر الأزمة على المفوضية، فقد أشار تورك إلى أن التمويل الموجه لمنظمات حقوق الإنسان المحلية حول العالم يتراجع أيضا، هذه المنظمات تعتمد على تمويل دولي لمواصلة عملها في التوثيق والمناصرة، ومع تراجع الدعم الدولي، تصبح قدرتها على حماية المجتمعات المحلية أكثر هشاشة، ويقول مراقبون إن هذا التراجع يهدد بإغلاق عشرات المنظمات الصغيرة في دول تعاني أصلا من مستويات مرتفعة من الانتهاكات، ما يخلق فراغا خطيرا في المشهد الحقوقي.
يشدد خبراء حقوق الإنسان على أن النتيجة المباشرة لتراجع التمويل هي أن المدنيين الأكثر عرضة للأذى سيصبحون بلا دعم أو حماية، وتعد المفوضية جزءا رئيسيا من الجهود الدولية التي توثق الانتهاكات، وتدعم الضحايا، وتوفر تقارير رسمية يمكن الاعتماد عليها في آليات العدالة الدولية، ومع تقليص عدد العاملين الميدانيين، تصبح المناطق الأكثر خطورة عرضة لأن تبقى بعيداً عن أعين المجتمع الدولي.
قلق عالمي
يثير تراجع التمويل مخاوف متنامية لدى منظمات دولية وخبراء وخبراء حقوقيين بشأن مستقبل منظومة حقوق الإنسان العالمية، ويقول الخبراء إن الانكماش المالي قد يسمح بتمدد الانتهاكات، ويقلل قدرة الأمم المتحدة على التدخل في وقت مبكر في الأزمات الجديدة، ويحد من قدرتها على الضغط السياسي والدبلوماسي لوقف الجرائم الجسيمة، خصوصا في النزاعات التي تشهد مستويات عالية من استخدام القوة ضد المدنيين.
تأسست مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عام 1993 بهدف دعم منظومة حقوق الإنسان وتعزيز المساءلة الدولية، وتعتمد المفوضية بصورة أساسية على تبرعات طوعية من الدول والمنظمات والجهات المانحة، مما يجعل تمويلها عرضة لتقلبات سياسية دولية.
وتواجه المفوضية منذ عام 2020 تراجعا مضطردا في التمويل، بالتزامن مع زيادة عدد الأزمات الإنسانية وتوسع النزاعات الممتدة، ما يفاقم الفجوة بين المهام والموارد. في المقابل، تتزايد الحاجة إلى عمليات ميدانية طويلة الأمد في مناطق كالسودان وغزة وسوريا والكونغو الديمقراطية وأوكرانيا، ومع تقلص التمويل الأمريكي والأوروبي خلال السنوات الأخيرة، باتت المفوضية أمام تحدٍ وجودي ينعكس على قدرتها في حماية المدنيين، وتوثيق الانتهاكات، ودعم آليات العدالة الدولية، مما يضع منظومة حقوق الإنسان العالمية أمام مرحلة شديدة الحساسية والتعقيد.











