أزمة لجوء غير مسبوقة تضغط على العالم والأمم المتحدة تعيد حساباتها
أزمة لجوء غير مسبوقة تضغط على العالم والأمم المتحدة تعيد حساباتها
في عالم يزداد اضطرابا يوما بعد يوم، تقف قضية اللاجئين عند مفترق طرق حاسم، وسط تصاعد النزاعات المسلحة، وتسييس سياسات اللجوء، وانحسار الدعم الدولي.
في هذا السياق، تستعد الأمم المتحدة لإعادة تقييم شاملة لاستراتيجياتها المتعلقة بحماية اللاجئين، خلال اجتماع دولي ينطلق يوم الاثنين المقبل في مدينة جنيف السويسرية، في محاولة للبحث عن حلول واقعية لأزمة إنسانية باتت من الأكبر في التاريخ الحديث.
الاجتماع، الذي يستمر حتى الأربعاء، يندرج ضمن إطار استعراض التقدم المحرز في المنتدى العالمي للاجئين، ويهدف إلى الربط بين مخرجات منتدى 2023 والاستعداد لمنتدى 2027، ويشارك فيه ممثلون عن الحكومات، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمؤسسات الأكاديمية، إلى جانب حضور لافت للاجئين أنفسهم، في محاولة لإشراكهم بشكل مباشر في رسم السياسات التي تمس حياتهم ومستقبلهم وفق فرانس برس.
أزمة أرقام غير مسبوقة
تشير أحدث بيانات الأمم المتحدة إلى أن عدد الأشخاص الذين أُجبروا على الفرار من منازلهم بسبب الاضطهاد والنزاعات المسلحة والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان بلغ مستوى قياسيا غير مسبوق. ففي عام 2025، قدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد النازحين قسرا بنحو 117.3 مليون شخص، قبل أن يرتفع الرقم في نهاية عام 2024 إلى 123.2 مليون لاجئ ونازح داخلي وطالب لجوء حول العالم.
وتكشف هذه الأرقام عن حجم المأساة الإنسانية المتفاقمة، حيث تتصدر جنسيات بعينها مشهد النزوح العالمي، ففي نهاية عام 2024، شكّل السودانيون العدد الأكبر من النازحين بواقع 14.3 مليون شخص، تلاهم السوريون بنحو 13.5 مليون، ثم الأفغان 10.3 مليون، والأوكرانيون 8.8 مليون، في انعكاس مباشر لاستمرار النزاعات الطويلة الأمد وتوسع رقعتها الجغرافية.
تمويل يتراجع واحتياجات تتضاعف
في الوقت الذي تتضاعف فيه أعداد اللاجئين، يواجه النظام الدولي للاستجابة الإنسانية أزمة تمويل خانقة، فقد تراجع الدعم الدولي بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما تبع ذلك من تخفيضات كبيرة في المساهمات الأمريكية، التي كانت تمثل سابقا أكثر من 40% من ميزانية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
ولم تقتصر الأزمة على الولايات المتحدة وحدها، إذ فرضت دول مانحة رئيسية أخرى قيودا صارمة على ميزانياتها، في ظل أزمات اقتصادية داخلية وضغوط سياسية متزايدة، ونتيجة لذلك، اضطرت المفوضية إلى تقليص عملياتها بشكل غير مسبوق، والاستغناء عن أكثر من ربع موظفيها منذ بداية العام، أي ما يقارب 5000 موظف، وهو ما انعكس مباشرة على الخدمات المقدمة للاجئين في مناطق مختلفة من العالم.
شراكات بدل الانكفاء
في مواجهة هذه التحديات، شدد رئيس قسم الميثاق العالمي للاجئين في المفوضية نيكولاس براس على أن المرحلة الراهنة لا تحتمل التراجع أو الانكفاء، وقال في حديثه للصحفيين إن الوقت الحالي هو وقت تعزيز الشراكات وتكثيف التعاون، مؤكدا ضرورة توجيه رسالة واضحة للاجئين والدول المضيفة بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة هذه الأعباء المتصاعدة.
وأشار براس إلى أن الجهود الدولية لم تتوقف بالكامل، موضحا أن ثلثي الأهداف التي تم تحديدها خلال المنتدى العالمي للاجئين عام 2023 قد تحققت أو باتت في طريقها إلى التحقق، رغم الظروف الصعبة، غير أن هذا التقدم، بحسب تحذيرات مسؤولي المفوضية، يظل هشا ومهددا بالتراجع في حال استمرار تراجع التمويل وغياب الإرادة السياسية.
تقاسم مسؤولية غير عادل
أحد أبرز محاور النقاش في اجتماع جنيف يتمثل في مسألة تقاسم المسؤولية، التي لا تزال غير متوازنة بشكل صارخ، فبحسب بيانات المفوضية، تستضيف الدول التي لا تمتلك سوى 27% من الثروة العالمية نحو 80% من لاجئي العالم، وهو ما يضع عبئا هائلا على دول نامية تعاني أصلا من أزمات اقتصادية وبنى تحتية محدودة.
كما أظهرت تقارير الأمم المتحدة أن نحو ثلاثة أرباع اللاجئين والنازحين يعيشون في بلدان معرضة بشدة أو بشكل بالغ لمخاطر التغير المناخي، ما يضيف بعدا جديدا للأزمة، حيث تتقاطع النزاعات المسلحة مع الكوارث البيئية، لتدفع بملايين إضافية نحو النزوح القسري.
خطوات محدودة وإنجازات جزئية
رغم الصورة القاتمة، تسجل بعض التطورات الإيجابية على مستوى السياسات الوطنية. فمنذ عام 2019، اعتمدت 10 دول قوانين جديدة تتيح للاجئين العمل بشكل قانوني، ما مكّن أكثر من 500 ألف شخص من تحسين أوضاعهم المعيشية والاعتماد على أنفسهم. كما عززت 10 دول أخرى أنظمة اللجوء لديها، من بينها تشاد التي أقرت أول قانون لجوء في تاريخها.
غير أن رئيس المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي حذّر في تقرير حديث من أن هذه الخطوات، على أهميتها، لا تزال بعيدة عن تلبية حجم الاحتياجات العالمية. وأكد أن الانخفاض الحاد في التمويل خلال العام الحالي يهدد بتقويض التقدم الذي تحقق بصعوبة خلال السنوات الماضية.
مسارات النقاش في جنيف
يركز اجتماع جنيف، الذي يشارك فيه نحو 1800 شخص بينهم 200 لاجئ، على 5 محاور رئيسية، تشمل التمويل المبتكر، وتعزيز الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للاجئين، وتوسيع السبل الآمنة والقانونية للانتقال إلى بلدان ثالثة، وتحويل مخيمات اللاجئين إلى مستوطنات إنسانية أكثر استدامة، إضافة إلى البحث عن حلول طويلة الأمد للنزوح المزمن.
كما تتضمن الاجتماعات فعاليات جانبية مخصصة لأكبر أزمات النزوح في العالم، من بينها الأوضاع في سوريا والسودان، وأزمة لاجئي الروهينغا، في محاولة لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود الدولية بشكل أكثر فاعلية.
تغيير في القيادة وتحديات المرحلة المقبلة
يأتي هذا الاجتماع الدولي في وقت تشهد فيه المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تغييرا في قيادتها، بعد الإعلان عن تعيين الرئيس العراقي السابق برهم صالح رئيسا جديدا للمفوضية، على أن يتولى مهامه في يناير خلفا لفيليبو غراندي، الذي أمضى 10 سنوات على رأس المؤسسة.
ويرى مراقبون أن القيادة الجديدة ستواجه واحدة من أصعب المراحل في تاريخ المفوضية، في ظل عالم تتشابك فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والمناخية، وتزداد فيه أعداد اللاجئين بوتيرة أسرع من قدرة المجتمع الدولي على الاستجابة، وبينما تبحث الأمم المتحدة في جنيف عن مسارات جديدة، يبقى مصير ملايين اللاجئين معلقا على مدى جدية الدول في تحويل التعهدات إلى أفعال، وإعادة الاعتبار لقيم التضامن والمسؤولية المشتركة.











