تبعات إنسانية.. مفوضية اللاجئين تفقد آلاف الموظفين وأزمة تمويل تهدد حياة الملايين
تبعات إنسانية.. مفوضية اللاجئين تفقد آلاف الموظفين وأزمة تمويل تهدد حياة الملايين
أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيان لها الإثنين أن الأزمة المالية التي تضرب مئات برامج الإغاثة هذا العام أدت إلى خفض عدد العاملين لديها إلى حد كبير، حيث فقد ما يقرب من 5 آلاف موظف وظائفهم حتى الآن، وأغلق أو عدّل عمل 185 مكتباً حول العالم، وحذر المفوض السامي من أن المفوضية تحتاج إلى ما لا يقل عن 300 مليون دولار إضافية بحلول نهاية العام لتجنّب عجز فوري وأن توقعاتها الأولية للإيرادات ستهبط إلى نحو 3.9 مليار دولار بنهاية العام، في حين تبقى الاحتياجات أعلى بكثير مع طلبات متزايدة لعام 2026.
الانهيار الحالي في التمويل لوكالات الأمم المتحدة الإنسانية هو نتاج تراكم عوامل عدة منها: تباطؤ تبرعات الدول التقليدية المانحة، وقرارات إدارية وسياسات تمويلية في بعض الدول أدّت إلى تجميد أو إعادة توجيه مساعدات، إضافة إلى ضغوط اقتصادية عالمية دفعت بعض الحكومات إلى تقليص الإنفاق الخارجي، وعلى خلفية تعاظم الأزمات المتزامنة (حروب ونزوح جماعي وتدهور اقتصادي وتداعيات مناخية)، ارتفعت الحاجة الإجمالية لأكثر من 10 مليارات دولار، في حين بلغت موارد المفوضية المتاحة في منتصف العام نسبة ضئيلة من ذلك المطلب، ما فرض إجراءات تقشفية وتسريحات واستبعاد مشاريع حماية مهمة.
تأثير إنساني مباشر
تؤدي هذه الفجوة في التمويل إلى آثار فورية وبعيدة المدى في اللاجئين والنازحين والمشردين قسرياً، منها: قطع برامج الإغاثة المباشرة أو تقليصها، وإغلاق مراكز توزيع الغذاء والمأوى والصحة النفسية، وإيقاف خدمات الحماية القانونية وبرامج تعليم الأطفال اللاجئين، وبحسب تقديرات المفوضية، فقد يفقد وصول المساعدة المباشرة نحو 11.6 مليون شخص خلال العام الجاري، أي ما يقرب من ثلث المستفيدين الذين خدمتهم المفوضية في العام الماضي، وهو رقم يعكس هشاشة شبكة الأمان الإنساني عالمياً.
إجراءات التسريح وإغلاق المكاتب لا تعني فقط اختفاء وظائف، بل تعني أيضاً تفكك سلاسل خبرة تمتد سنوات في إدارة الأزمات، والتراجع عن برامج بناء القدرات لدى الحكومات المضيفة، وهدر استثمار طويل الأمد في البنية التحتية الإنسانية، ويحذّر قادة المفوضية من أن استعادة الكفاءات والقدرة التشغيلية ستستغرق سنوات، وأن الفشل في الاحتفاظ بفرق ميدانية مؤهلة سيقلّص قدرة الأمم المتحدة على الحماية والتحقق من انتهاكات وجرائم، ما يفتح فراغاً يمكن أن تستغله أطراف متعددة.
تضع تخفيضات المانحين، ولا سيما إجراءات إعادة تقييم أو تعليق أجزاء من المعونات في بعض البلدان، مفوضية اللاجئين أمام معضلة أخلاقية وقانونية، فتخفيضات مبرمجة أو عقابية في تمويل المساعدات غالباً ما تكون نتيجة تحوّلات سياسية أو أولويات أمنية، لكن ثمنها يدفعه المدنيون النازحون، ورداً على موجة من التخفيضات، أطلقت الأمم المتحدة استنزافاً من الاحتياطيات الطارئة وحثّت شركاء جدداً على التعويض، لكن ذلك يظل حلاً مؤقتاً لا يغني عن التزام مستدام من الدول.
ردود الفعل الحقوقية والأممية
منظمات حقوقية دولية، منها "العفو الدولية"، حذّرت مراراً من نتائج تخفيضات التمويل، معتبرة أن حقوق اللاجئين الأساسية -الحق في الحماية، الغذاء، الصحة، والتعليم- مهددة إذا استمرّ هذا المسار، ودعت هيئات مثل منظمة العفو الدولية وعدد من الشبكات الحقوقية الدول المانحة إلى إعادة النظر فوراً في قرارات التجميد، معتبرة أن التأثير يتجاوز بعداً عملياً إلى بعد إنساني وقانوني يستهدف كرامة وحياة ملايين الأشخاص، وفي المقابل، دعت مفوضية اللاجئين المجتمع الدولي إلى التحرك الفوري لتفادي تفكك خدمات حماية أساسية.
قانونياً، يترتب على الدول الأطراف في اتفاقية اللاجئين لعام 1951 والبروتوكول الملحق بها التزامات بحماية اللاجئين وتقديم سبل الحماية الأساسية، فضلاً عن التزامها بالمساعدة في تمويل آليات الحماية الدوليّة التي تيسّر هذه الخدمة، وتقليص التمويل لا يغيّر هذه الالتزامات، بل يضع المجتمع الدولي أمام سؤال حول آليات تطبيقها وكيفية ضمان قدرة أنظمة الحماية على القيام بواجبها عندما تنحسر الموارد.
خيارات الاستجابة والتوصيات
أمام هذا الواقع، تظهر الخيارات الأساسية في ثلاثة مستويات متكاملة: أولاً، دعوة عاجلة لإطلاق تمويل جسر لا يقلّ عن المبلغ الطارئ الذي تطلبه المفوضية لتجنّب تفاقم العجز، ثانياً، تبنّي آليات تمويل مرنة وطويلة الأمد تشمل صناديق طوارئ مشتركة وتوسيع قنوات التمويل إلى مؤسسات غير تقليدية وإسهامات سيادية مواتية، ثالثاً، إصلاح كيفية ربط المساعدة التنموية بالاستجابة الإنسانية بحيث تُؤمّن الاستدامة وليس الاعتماد على تمويل طارئ متقطع، كما يُستدعى تعزيز الشفافية في تخصيص المساعدات ومراقبة أثر كل قرار تقشفي في المستفيدين النهائيين.
أزمة تمويل مفوضية اللاجئين ليست مسألة محاسبة داخلية أو إحصائية بحتة؛ إنها قضية إنسانية عاجلة تحمل وجهاً من وجوه الخيارات الدولية: إما الاستمرار في سياسة التمويل المتذبذب التي تهدد حياة الملايين، أو اتخاذ قرار جماعي طويل الأمد يدعم الحماية الدولية ويحصّن حقوق اللاجئين، وما يجري اليوم سيُقاس غداً بمدى قدرة المجتمع الدولي على حماية الأضعف عندما تُشدد الظروف، وهذا اختبار لالتزامات الدول الإنسانية والقانونية على السواء.