ملف الجنسية وحقوق المرأة.. عرض مسرحي في بيروت يحول معاناة الأمهات إلى قضية رأي عام
ملف الجنسية وحقوق المرأة.. عرض مسرحي في بيروت يحول معاناة الأمهات إلى قضية رأي عام
على خشبة مسرح التيرو في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، لم يكن العرض المسرحي “وطن الأم لازم يلم” مجرد عمل فني، بل مساحة إنسانية وحقوقية طرحت أسئلة مؤلمة حول العدالة والمساواة والمواطنة، وحولت معاناة آلاف الأمهات اللبنانيات وأبنائهن إلى صوت مسموع في مواجهة قوانين تمييزية قائمة على أساس الجندر لا تزال تحكم حياة الناس اليومية.
تم تقديم العمل المسرحي أمام جمهور متنوع من ناشطين وحقوقيين ومهتمين بالشأن العام في لبنان مساء أمس السبت، ضمن سلسلة عروض مسرحية حقوقية تنفذ في عدد من الدول، من بينها لبنان والأردن ومصر وتونس والبرتغال ورومانيا، بهدف استخدام الفن أداة للتغيير الاجتماعي وفتح النقاش حول قضايا مسكوت عنها وفق وكالة أنباء المرأة.
سلطت المسرحية الضوء على واحدة من أكثر القضايا حساسية في لبنان، وهي حرمان الأمهات اللبنانيات المتزوجات من أجانب من حق منح الجنسية لأبنائهن، وهو حق يتمتع به الرجل اللبناني دون قيد أو شرط، من خلال أداء تمثيلي بسيط في أدواته وعميق في رسائله، نجح المشاركون في نقل معاناة حقيقية يعيشها أبناء ولدوا وترعرعوا في لبنان، لكنهم بقوا غرباء في وطن أمهاتهم.
مشهد المحكمة وشهادات الوجع
في أحد المشاهد المحورية، وقفت القاضية مريانا في مواجهة 4 نساء يروين قصصهن أمام منصة العدالة حيث كشفت الشهادات وجها إنسانيا قاسيا للتمييز القانوني، من صعوبة الحصول على عمل، إلى الحرمان من الالتحاق بالمدارس، وصولا إلى الهجرة القسرية بحثا عن فرص خارج بلد نشأ فيه الأبناء لكنهم حرموا من حق العمل والعيش الكريم داخله ولخص هذا المشهد مأساة يومية تتكرر بصمت في آلاف البيوت اللبنانية.
لم ينته العرض مع إسدال الستارة، بل أعقبه نقاش مفتوح بين فريق العمل والجمهور، تناول الأبعاد الإنسانية والحقوقية والسياسية والاجتماعية للقضية، كما سعى النقاش إلى تفكيك السردية السائدة التي تحصر حق المرأة في نقل جنسيتها ضمن اعتبارات سياسية أو ديمغرافية، وفتح الباب أمام التفكير في مستقبل أكثر عدلا ومساواة.
المسرح أداة لكسر النمطيات
على هامش العرض، أكدت مديرة حملة جنسيتي لي ولأسرتي كريمة شبو أن هذا العمل يهدف إلى تغيير السردية وكسر النمطيات المرتبطة بحق المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لأبنائها، وأوضحت أن بساطة المسرحية لا تقلل من عمقها، بل تعكس وحدة المعاناة بين النساء رغم اختلاف الانتماءات والخلفيات.
وشددت على أن القضية لا علاقة لها بملفات النزوح أو اللجوء كما يروج البعض، بل تتعلق بحق أصيل لمواطنة لبنانية، بغض النظر عن جنسية زوجها، في أن تكون الجنسية حقا لأطفالها وأسرتها، محذرة من محاولات ربط هذا الحق بحجج ديمغرافية أو سياسية تنتقص من حقوق النساء.
رفض منطق الاستثناء
كريمة شبو انتقدت الطروحات التي تدعو إلى استثناء جنسيات معينة من الحق في الجنسية في لبنان، مثل أبناء المتزوجات من سوريين أو فلسطينيين، معتبرة أن هذا المنطق يمس جوهر المواطنة والإنسانية، ويتناقض مع التزامات لبنان الدولية، لا سيما اتفاقية مناهضة التمييز العنصري التي وقع عليها، وأكدت أن الأمهات لا يطالبن بامتيازات إضافية، بل بحق واحد وواضح يقوم على المساواة الكاملة مع الرجل أمام القانون.
شهادات حية من الواقع
المعاناة لم تبق على خشبة المسرح فقط، بل انتقلت إلى القاعة عبر شهادات شخصية مؤثرة. نهاد بيومي، ابنة أم لبنانية وأب فلسطيني، روت كيف حصلت على شهادة الحقوق من جامعة لبنانية لكنها حرمت من الانتساب إلى نقابة المحامين بسبب جنسيتها، معتبرة أن حرمان الإنسان من جنسيته وحقه في العمل يدفعه قسرا إلى الهامش وخارج إطار القانون.
وأشارت إلى أن الدستور اللبناني ينص على المساواة بين المرأة والرجل وحرية الزواج، إلا أن القوانين التمييزية المتعلقة بالجنسية تنسف هذه المبادئ، مؤكدة أن المشكلة ليست قانونية فقط، بل إنسانية واجتماعية، حيث يتعرض الأشخاص لتمييز عنصري وطائفي لمجرد انتمائهم إلى جنسية معينة.
حق الجنسية
الناشطة والإعلامية النسوية مريم ياغي رأت في العمل المسرحي صرخة في وجه التعنت الرسمي تجاه حق أساسي للأمهات اللبنانيات، واستحضرت مفارقة حديثة حين منحت الجنسية اللبنانية لشخصيات أجنبية بقرارات سياسية أو تكريمية، في الوقت الذي تحرم فيه نساء لبنانيات من هذا الحق لمجرد اختيارهن الزواج من غير اللبنانيين.
وأكدت أن هذا الواقع يمس السيادة الشخصية للمرأة على حياتها وخياراتها، ويتناقض مع مبدأ دولة القانون والمؤسسات، مشيرة إلى تجربتها كأم لبنانية واجهت صعوبات في تسجيل ابنتها في المدرسة بسبب عدم حملها الجنسية اللبنانية، رغم الإقامات القانونية المتكررة.
المساواة الدستورية الغائبة
من بين الحاضرات، عبرت جيهان أبو عابد عن شعورها بأن المسرحية تعكس قصتها الشخصية، أوضحت أنها عاشت في لبنان طول حياتها، وحصلت لاحقا على الجنسية اللبنانية، لكنها لم تتمكن من منحها لابنتها، رغم قدرتها على منحها جنسيات أخرى، هذا التناقض، بحسب قولها، يكشف خللا عميقا في مفهوم المواطنة والمساواة، حيث تحرم المرأة من حق تمنحه الدولة بسهولة للرجل.
يخضع قانون الجنسية اللبناني لمرسوم يعود إلى عام 1925، ويمنح الرجل اللبناني وحده حق نقل جنسيته إلى زوجته وأبنائه، في حين تحرم المرأة من هذا الحق، باستثناء حالات نادرة جدا، ورغم مطالبات متكررة من منظمات حقوقية ونسوية منذ عقود، لم يتم تعديل هذا القانون، وسط ربطه بحسابات ديمغرافية وطائفية، وتؤكد تقارير حقوقية أن هذا التمييز ينعكس على حقوق آلاف الأطفال في التعليم والعمل والرعاية الصحية، ويؤدي إلى أشكال متعددة من الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وفي هذا السياق، يبرز الفن، كما في عرض وطن الأم لازم يلم، كأحد المسارات القليلة القادرة على كسر الصمت، وإعادة طرح القضية من زاوية إنسانية تضع كرامة الإنسان وحقه في المواطنة في صلب النقاش العام.











