الوثائق كأداة إقصاء.. مراجعة السجل الانتخابي في الهند تتحول إلى أزمة حقوقية
حذف 6.8 مليون ناخب في ولاية بيهار
تُهدِد عملية مراجعة السجل الانتخابي في الهند أحد أكثر الحقوق السياسية أساسية، وهو الحق في المشاركة السياسية دون تمييز، بعدما تحولت إجراءات يفترض أنها إدارية إلى مسار يُنتج الإقصاء والحرمان والذعر الاجتماعي.
تُظهِر الوقائع أن تمديد لجنة الانتخابات الهندية للمواعيد النهائية في إطار "المراجعة المكثفة الخاصة (SIR)"لم يكن خطوة إصلاحية بقدر ما كان اعترافاً متأخراً بحجم الانهيار الإداري والضغط الإنساني الذي رافق العملية منذ انطلاقها.
وتكشف الشهادات الواردة من عدة ولايات عن إرهاق شديد لموظفي مراكز الاقتراع، وضغوط نفسية غير محتملة، وحالات انتحار واحتجاجات، ما يعكس بيئة عمل قسرية تتناقض مع المعايير الحقوقية الأساسية، كما أشار موقع "ذا واير" الهندى في نسخته الإنجليزية، اليوم الثلاثاء.
تُفاقِم هذه الصورة حقيقة أن التمديد الزمني ذاته جاء متفاوتاً وغير منطقي، إذ مُنحت ولايات ثلاثة أيام فقط، مقابل خمسة عشر يوماً في ولايات أخرى، في حين تُركت أكبر ولاية في البلاد بفاصل زمني يوم واحد فقط بين نشر مسودة القوائم وموعد التأهل، وتُبرز هذه الجداول الزمنية المتسارعة، فجوةً خطرة بين الدقة الإجرائية على الورق وواقع التنفيذ على الأرض، حيث لا تتوافر الشفافية ولا الثقة العامة.
حذف جماعي بلا تبرير
تكشف نتائج مراجعة السجل الانتخابي في ولاية بيهار عن جوهر الأزمة الحقوقية، فقد جرى حذف نحو 6.8 مليون ناخب، أي ما يقارب 8% من إجمالي الناخبين البالغ عددهم نحو 79 مليوناً، وفقاً لما أوردته مجلة "فورين بوليسي".
ورغم تبرير لجنة الانتخابات ذلك بحذف أسماء المتوفين أو المنقولين أو المكررين، فإنها لم تنشر بيانات تفصيلية تُمكّن من التحقق المستقل من صحة هذه الادعاءات.
وتُضيف الأرقام بُعداً أكثر تعقيداً للمشهد، إذ جرى في الوقت نفسه إضافة 2.2 مليون اسم جديد، معظمهم من ناخبين جدد، لا من المشطوبين المعاد تسجيلهم، يُظهر هذا التناقض، كما تنقل "ذا واير"، خللاً بنيوياً في آليات التسجيل الدورية، ويطرح تساؤلات جدية حول معايير الحذف والإضافة، وتأثيرها غير المتكافئ على الفئات الضعيفة.
وتشير شهاداتُ مواطنين إلى أن عمليات الحذف لم تكن مجرد أخطاء تقنية، فبحسب ما نقلته "فورين بوليسي"، اكتشف كلارنس توبو، عامل تكنولوجيا المعلومات البالغ 38 عاماً من بيهار، أن والدته سُجّلت رسمياً كمتوفاة رغم أنها لا تزال على قيد الحياة، كما جرى تسجيل غياب أفراد من عائلته عن الولاية دون علمهم أو استيفاء الإجراءات.
ويجسد هذا المثال أثر الحذف على أسر تنتمي إلى أقليات دينية وطبقية، حيث ينتمي توبو إلى الأقلية المسيحية وإلى طبقة الداليت.
الوثائق كأداة إقصاء
تبرز الشروط الوثائقية المفروضة في إطار نظام تسجيل الناخبين الموحد (SIR) بُعداً حقوقياً آخر، فقد استُبعدت بطاقة "آدهار"، التي يحملها نحو 90% من سكان بيهار، من قائمة الوثائق المقبولة في البداية، مقابل طلب مستندات يصعب على الفقراء والعمال المهاجرين والنساء والأميين توفيرها، مثل سجلات دراسية قديمة أو سندات ملكية أراضٍ، كما ذكرت "فورين بوليسي".
تُظهِرُ هذه السياسة كيف يمكن للبيروقراطية أن تتحول إلى أداة إقصاء، حين تُصمَّم المعايير بمعزل عن الواقع الاجتماعي، ورغم قرار المحكمة العليا لاحقاً بقبول بطاقة "آدهار"، فإن الأثر الفوري كان قد وقع بالفعل، حيث حُرم ملايين الناخبين من حقهم في التسجيل في المرحلة الأولى، في ولاية تبلغ نسبة الأمية فيها نحو 30%.
وتُبيِن التقارير أن الأثر الأكبر لعمليات المراجعة وقع على الأقليات الدينية والطبقات الدنيا، ففي ولايات مثل البنغال الغربية، حيث يشكل المسلمون نسبة كبيرة من السكان، حذّرت المعارضة من أن المراجعة تُستخدم كـ"مسح سري للمواطنة"، يمهّد للحرمان من التصويت، بحسب ما أوردته "الغارديان".
وتشير شهادات إنسانية مؤلمة إلى تداعيات نفسية واجتماعية مباشرة، فقد روت "الغارديان" قصة جاهير مال، العامل المسلم الأمي الذي انتحر قبل موعد فحص وثائقه بساعات، خوفاً من تصنيفه مهاجراً غير شرعي رغم ولادته في الهند.
وتكشف هذه الواقعة كيف يمكن لسياسات إدارية غير شفافة أن تُنتج خوفاً وجودياً يمس الحق في الحياة والكرامة، لا مجرد الحق في التصويت.
المساءلة والتسييس
تُظهِر المناقشات البرلمانية حول العملية فشلاً في تحويل الأزمة إلى حوار وطني جاد، فقد اتهم زعيم حزب المؤتمر، راهول غاندي، لجنة الانتخابات بالتواطؤ مع الحكومة وتقويض نزاهة الانتخابات، مطالباً بآليات شفافة لمراجعة الحذف وسجلات قابلة للتدقيق، وفقاً لـ"الغارديان".
في المقابل، رد وزير الداخلية أميت شاه بتوصيف العملية كإجراء ضروري لمنع "المتسللين"، دون تقديم بيانات تدعم هذا الادعاء.
وتضيف الرسالة المفتوحة التي وقّعها 272 من "المواطنين البارزين"، والتي انتقدت تصريحات المعارضة بدلاً من مساءلة المؤسسات، بُعداً مقلقاً للنقاش العام، إذ تعكس محاولة لنقل العبء من الدولة إلى المنتقدين، كما أشارت "ذا واير".
حذرت "فورين بوليسي" من أن تداعيات الحذف قد تتجاوز صناديق الاقتراع، حيث ربطت بين شطب الأسماء وحملات أوسع لترحيل المسلمين بدعوى الإقامة غير القانونية، ما يُحوِّل سجل الناخبين إلى أداة غير مباشرة لإثبات أو نفي المواطنة.
يعزز هذا القلق ما حدث سابقاً في ولاية آسام، حيث أدى سجل المواطنين الوطني إلى احتجاز وترحيل مئات الآلاف، معظمهم من المسلمين، وفقاً لـ"الغارديان".
وتجسد قصة جيتني ديفي، البالغة 92 عاماً، هذا التداخل بين الحقوق السياسية والاقتصادية، فقد فقدت حقها في المعاش الحكومي بعد تسجيلها متوفاة خلال عملية المراجعة، ما وضع مصدر عيشها الوحيد في خطر، كما نقلت "فورين بوليسي".
يُظهر هذا المثال كيف يمكن لخطأ إداري في سجل الناخبين أن يُفضي إلى انتهاك متسلسل لحقوق متعددة.
أزمة ثقة
تؤكد الوقائع مجتمعة أن أزمة مراجعة السجل الانتخابي في الهند ليست تقنية ولا عابرة، بل أزمة ثقة تمس جوهر الديمقراطية التمثيلية، فالديمقراطية.
كما تُبرز التقارير، لا تقوم على إجراءات سريعة أو شعارات عن "انتخابات حرة ونزيهة"، بل على ثقة المواطنين في أن حقهم في التصويت مصان، وأن أي مراجعة تُجرى بشفافية، ودون تمييز، ومع آليات إنصاف فعالة.
والخلاصة، ان تعميم نموذج بيهار على المستوى الوطني، في بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، قد يُفضي إلى حرمان عشرات الملايين من حقهم في التصويت، وهو ما يجعل من عملية المراجعة اختباراً حاسماً لمستقبل الحقوق السياسية في الهند، لا مجرد تمرين إداري.











