بعد أحداث بوندي.. الاحتفاء بالشجاعة أولى من البحث عن "عدو في الداخل"
بعد أحداث بوندي.. الاحتفاء بالشجاعة أولى من البحث عن "عدو في الداخل"
تجسد الهجمات القاتلة التي استهدفت يهوداً على شاطئ بوندي الأسترالي معاداة السامية في أوضح صورها. وبحسب ما أمكن استخلاصه، قد يكون من العدل وصف الإرهابيين الاثنين بأنهما "إسلاميان"، لأنهما اختارا ضحاياهما من اليهود الأبرياء، لمجرد كونهم يهوداً.
تشير التقارير إلى أن المهاجم الأصغر سناً الذي يُدعى نافيد أكرم، كانت له صلات بـداعش، وكانت السلطات الأسترالية قد أدرجته في عام 2019 بوصفه شخصاً يشكل تهديداً محتملاً. قد لا يكون ممكناً بعد تحديد ما إذا كانت السلطات قد أخفقت في التحرك، غير أن خطر الإرهاب الإسلاموي يظل قائماً ولا يسمح بأي قدر من التراخي.
الآن، ستنكب الأجهزة الأسترالية على القيام بمراجعةٍ أمنية قد تمتد لعدة أشهر، وستُجرى تحقيقات صحفية، وسيُفتح ربما تحقيق رسمي أو اثنان، وستصدر بالتأكيد همهمات بشعة تتهم المسلمين بأنهم "عدو في الداخل".
لكن الحقائق الأساسية المتعلقة بهجوم شاطئ بوندي الذي أودى بحياة 15 شخصاً، أصبحت الآن واضحة. فقد كان فعلاً هجوماً معادياً للسامية، واستند إلى أقدم فكرةٍ نمطية في عالم الكراهية ضد اليهود، ألا وهي فكرة المؤامرة العالمية التي يُحمل فيها كل فردٍ يهودي -مهما كان غير متدين أو مؤيداً للفلسطينيين، أو مهما كان مدى التزامه الديني أو علمانيته، وبغض النظر عن مدى ارتباط تراثه أو تربيته باليهودية- المسؤولية عن القرارات التي تُتخذ في نطاق الدائرة الضيقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
الناس الذين صادف أنهم يهود، يحق لهم أن يغضبوا بشدة من معاملتهم كما لو كانوا جنوداً في "جيش الدفاع الإسرائيلي" وأقدموا على ارتكاب جريمة حرب. في المقابل، إن أسوأ رد فعلٍ على مثل ذلك الفعل الشائن، هي محاولة إلقاء اللوم على جميع المسلمين، بسبب الأرواح التي أُزهقت على شاطئ يبعد آلاف الأميال، على يد شخصين لا يعرفونهما.
في الواقع، تشير الأفعال البطولية التي قام بها أحمد الأحمد -وهو سوري الأصل يبلغ من العمر 43 سنة، وأب لطفلين، وقد أُصيب بجروح بالغة أثناء إقدامه على انتزاع سلاح أحد المهاجمَين في شاطئ بوندي- إلى أنه بدلاً من الحديث عن عدوٍ داخلي، فإن من الأنسب الحديث عن الأبطال في الداخل.
لقد أشادت به عائلته ووصفته بحق بأنه "بطل أستراليا". ومن الطبيعي أن ينضم إليهم آخرون في الإشادة بشجاعته، فقد كتب رئيس الوزراء الأسترالي السابق توني أبوت تغريدةً قال فيها: "الحمد لله أن أحد المارة تدخل بشجاعة، وأظهر الجانب المشرق من بلادنا". غير أنه عاد لاحقاً، عبر ما لا يمكن وصفه إلا بأنه مقابلة "متساهلة" على برنامج "توداي" Today على قناة "بي بي سي"، لمحاولة ربط الفظاعة التي وقعت في بلاده بالمسيرات السلمية المناهضة للإبادة الجماعية والمؤيدة للفلسطينيين حول العالم، كما لو كانت جميعها جزءاً من حركة عالمية تسعى إلى محو اليهود من على وجه الأرض.
في الواقع، لا شك لدي في أن شعاراتٍ (فلسطينية) -مثل "من النهر إلى البحر"، و"عولموا الانتفاضة"- تمثل بالنسبة إلى بعض هؤلاء المتظاهرين، نيةً في إبادةٍ جماعية لليهود. لكن سلبهم الحق في الاحتجاج لن يمحو تلك الأفكار الشريرة من عقولهم بين ليلةٍ وضحاها.
أما المطلب المتعلق بحظر جماعة "الإخوان المسلمين"، الذي أثير بعد أحداث شاطئ بوندي، فقد لا يكون بالبساطة أو الفعالية اللتين يبدو عليهما للوهلة الأولى. ووفقاً للمعلومات المتوافرة، فإن الإرهابيَين اللذين نفذا الهجوم في أستراليا، لم يكونا عضوين في هذا التنظيم. من الجيد حظر الجماعات الإسلاموية المسلحة، ومن الأفضل بكثير تعقب الإرهابيين الذين ينتمون إلى تلك الجماعات ومقاضاتهم، لكن ليس من الصواب شيطنة جميع المسلمين عبر ربطهم بأشخاص عنيفين يرفضونهم ويكرهونهم.
لقد تعرض اليهود للازدراء وتمت شيطنتهم على مدى آلاف الأعوام. ومن وجهة نظري -من دون أن أدعي التحدث بالنيابة عنهم- فإن عيد "هانوكا" (أو "عيد الأنوار" المرتبط بحروبٍ يهودية ضد اليونانيين في عام 146 ق.م)، يشكل في جزءٍ منه مناسبةً لتحدي هذا العداء الأعمى والجهل والكراهية.
من هنا، فإن على كل جيل أن يواجه الشرّ القديم لمعاداة السامية، الذي لا يكفّ عن التطور والتحوّل إلى أشكال جديدة، عبر جماعات مختلفة ووسائط إعلامية متعددة. ومع تغيّر العالم، تتغيّر أيضاً الخرافة القائلة إن اليهود يسيطرون عليه. واليوم، لا تزال كراهية اليهود حاضرة في بعض الأوساط الإرهابية الإسلاموية العنيفة، تماماً كما هي موجودة في أوساط النازية الجديدة.
إن استغلال معاناة اليهود لخدمة أهدافٍ قائمة على الكراهية، يُعد من أكثر الجوانب إيلاماً وإثارةً للقلق في جريمة شاطئ بوندي، إنه المشهد نفسه الذي سبق أن شهدناه عقب الهجوم على كنيس مانشستر في بريطانيا.
لذا، فهناك مساران لا بد من التركيز عليهما. أولهما، توفير التمويل الكافي لدعم الشرطة والأجهزة الأمنية كي تتمكن من رصد مثيري الكراهية العنصرية واعتراضهم قبل أن تتحول أفكارهم إلى عمليات إطلاق نار في مهرجانات يهودية أو تفجير مساجد. أما المسار الثاني فيتمثل في العمل على إعادة بناء ثقافة سياسية تمنع إذكاء الصراعات بين الناس الذين يرغبون ببساطة في أن يعيشوا حياتهم بسلام، بعيداً عن أي نزاعات يغذيها سياسيون انتهازيون ومحرضون، لا يضعون مصالح الآخرين في الحسبان.
في بريطانيا، نعيش في مجتمع متعدد الثقافات، يتيح لنا جميعاً ممارسة عاداتنا ومعتقداتنا الدينية بحريةٍ تامة، لأن هذه هي الطريقة العملية الوحيدة لتنظيم شؤوننا، لكن عندما نبدأ في النظر إلى الطقوس أو الملابس المرتبطة باليهودية أو الإسلام، على أنها شريرة ومهددة لنا، فستكون هناك عواقب وخيمة لا محالة، وإذا ما ألقينا باللوم على المسلمين واليهود في أعمالٍ غير إنسانية ارتكبها أناس من دينهم، في حين أنهم لا علاقة لهم بها، فإننا نكون قد حكمنا على أنفسنا بالهلاك.
وبوصفي شخصاً يتذكر تعرّضه في طفولته للسخرية والإهانات الشخصية في ساحة المدرسة، خلال حملة العنف التي شنّها "الجيش الجمهوري الإيرلندي" IRA، فقط بسبب اسمي وخلفيتي، أستطيع القول إن لدي لمحةً محدودة عما يواجهه آخرون من عنصريةٍ أشد قسوة. ففي عام 1974، دعت "الجبهة الوطنية" National Front - وهي حركة عنصرية تؤمن بتفوق العرق الأبيض - إلى اعتقال الإيرلنديين وترحيلهم عن البلاد أيضاً.
نادراً ما كانت الدول أحاديةَ الثقافة، كذلك القواسم المشتركة بين البشر أكثر مما نعتقد، وهنا أستذكر جو كوكس النائبة "العمالية" التي اغتيلت عام 2016 على يد قوميٍ يميني متطرف، كان يهتف بشعار "بريطانيا أولاً"، ويكره ما كانت تدافع عنه، وهو قيام مجتمع متعدد الأعراق. وقد قالت كوكس في الخطاب الأول الذي ألقته أمام "مجلس العموم" البريطاني: "نحن أكثر اتحاداً، ولدينا قواسم مشتركة أكثر بكثير مما يفرقنا". وفي أعقاب هجوم شاطئ بوندي، قد يكون من الحكمة بالنسبة إلى قادة الغرب أن يتذكروا كلماتها.
نقلاً عن صحيفة "إندبندنت"










