تحديات تمويل ضحايا التعذيب.. بين المخاوف الأممية وسيناريوهات الحلول المقترحة
تحديات تمويل ضحايا التعذيب.. بين المخاوف الأممية وسيناريوهات الحلول المقترحة
حظيت المخاوف الأممية بشأن تقلص الحيز المدني لمساندة ضحايا التعذيب حول العالم باهتمام واسع خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ58، التي تستمر حتى 4 أبريل المقبل، وسط قلق متزايد من تعثر المساعدات مستقبلاً رغم المنح الحديثة التي قدمتها الأمم المتحدة في 92 دولة، والتي تجاوزت قيمتها 8 ملايين دولار، لدعم أكثر من 49 ألف ضحية.
وفي هذا السياق، أكد خبراء في حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التصدي لهذه التحديات يستلزم اتباع خمسة مسارات رئيسية، هي: إلزام الدول بتعهداتها وفق الاتفاقيات الدولية لمناهضة التعذيب، وتعزيز الآليات الدولية للرقابة والمساءلة عبر الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، إلى جانب تكثيف الضغط الدبلوماسي والإعلامي لكشف الممارسات التي تحد من عمل المجتمع المدني، وإنشاء منصات رقمية لمنع حجب التقارير الحقوقية وضمان وصول المعلومات، واستخدام الدعاوى القضائية الدولية لفرض عقوبات على الحكومات التي تعرقل عمل المنظمات المدنية، كما حدث في قضية "جمعية المحامين خوسيه ألفيار ريستريبو" في كولومبيا.
حكم قضائي تاريخي
في أكتوبر 2024، أصدرت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان حكمًا تاريخيًا لصالح جمعية المحامين خوسيه ألفيار ريستريبو في كولومبيا، بعد أن تعرض أعضاؤها لممارسات اضطهاد، ومراقبة منهجية، ومضايقات، وحملات تشويه.
ورفع القضية مركز العدالة والقانون الدولي، بصفته طرفًا مدعيًا مشاركًا، بدعم من صندوق الأمم المتحدة للتبرعات لضحايا التعذيب، الذي موّل أيضًا تقريرًا خبيرًا قدمه مركز الرعاية النفسية والاجتماعية إلى المحكمة.
جاءت هذه المخاوف في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حول أداء صندوق الأمم المتحدة للتبرعات لضحايا التعذيب، والذي سيُعرض خلال الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان.
وأشار التقرير إلى أن تقلص الحيز المدني عالميًا يؤثر سلبًا على قدرة الجهات المستفيدة من المنح على تقديم المساعدة المباشرة للضحايا، خاصة في حالات الطوارئ.
وأوضح التقرير أن المنظمات الحقوقية تواجه مخاطر متزايدة، تشمل المضايقات والتهديدات والاعتداءات والاستجوابات القسرية، والمراقبة المادية وعبر الإنترنت، وحملات التشهير والمداهمات الأمنية.
وخلال عام 2024، قام صندوق الأمم المتحدة للتبرعات لضحايا التعذيب بـ37 زيارة ميدانية إلى مقدمي طلبات المشاريع لدورة منح 2025، لتقييم الطلبات ومراقبة تنفيذ المشاريع الجارية.
في إطار جهوده لمساعدة الضحايا، أعلن غوتيريش أن الأمم المتحدة قدمت 188 منحة سنوية في 92 دولة خلال 2024، بقيمة 8 ملايين و70 ألفًا و200 دولار، ما أسهم في دعم أكثر من 49 ألف ضحية للتعذيب، كما شدد على ضرورة حظر التعذيب في جميع الأوقات، وضمان حماية الضحايا، وإشراكهم في النضال من أجل العدالة والتعويض وإعادة التأهيل الكامل.
وفي 2024، قدّم الصندوق 400 ألف دولار تمويلا عاجلا لدعم 8 مشاريع إغاثية لمنظمات المجتمع المدني، استفاد منها نحو 5,540 ناجيًا من التعذيب وأفراد أسرهم في سبعة بلدان تواجه أزمات إنسانية وحقوقية.
ورغم جهود التمويل، لا يزال هناك عجز مالي في تمويل جولة المنح السنوية لعام 2025، يُقدَّر بنحو 7 ملايين و690 ألف دولار، مقارنة بطلبات المنح السنوية التي قيّمتها الأمانة العامة للأمم المتحدة وأوصت بتمويلها.
وفي عام 2024، تلقى الصندوق تبرعات وتعهدات مالية من 17 دولة، بالإضافة إلى هبات عامة بقيمة 11 مليونًا و310 آلاف دولار، مما يشكل زيادة بنحو 766 ألف دولار مقارنة بعام 2023.
تقليص الحيز
وعن كيفية تجاوز التحذير الأممي من تقلص الحيز المدني لمساندة ضحايا التعذيب في العالم، يضع المحامي الحقوقي والخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، 4 مسارات للدعم.
وقال الحقوقي رضا الدنبوقي، لـ"جسور بوست" إنه "يجب أن يتم ذلك أولا من خلال التزام الدول بموجب الاتفاقيات الدولية، حيث تنص المادة ٢ من اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT) على وجوب اتخاذ الدول تدابير فعالة لمنع التعذيب بما في ذلك حماية المنظمات المدنية التي تدعم الضحايا".
وفي هذا الإطار يستند الدنبوقي، إلى المادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) التي تؤكد حق الأفراد في تشكيل الجمعيات والمشاركة في الأنشطة المدنية وهو حق تلزم الدول بحمايته، مشيرا إلى أن يجب الوضع في الاعتبار إعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان (1998) والذي يلزم الدول بتوفير بيئة آمنة للمنظمات المدنية ويمنع التضييق عليها عبر تشريعات مقيدة (مثل قوانين التمويل الأجنبي).
وثاني المسارات بحسب الدنبوقي تتمثل في تعزيز الآليات الدولية للرقابة، عبر تفعيل دور اللجنة الفرعية لمنع التعذيب (OPCAT) لمراقبة التزام الدول بمنع الانتهاكات ضد المنظمات المدنية واستخدام تقاريرها للضغط على الحكومات، علاوة على مطالبة المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب بتوثيق حالات التضييق على الحيز المدني في تقارير موازية وإحالتها إلى مجلس حقوق الإنسان.
وعن ثالث ورابع المسارات، يمضي الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، قائلا: “لا ننسى الضغط الدبلوماسي والمالي عبر استخدام آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) في مجلس حقوق الإنسان لتسليط الضوء على انتهاكات تقليص الحيز المدني في الدول المعنية وربط المساعدات الدولية بتحسين البيئة التشريعية والقانونية، وتطبيق مبدأ (الشراكة مع المجتمع المدني) في برامج الأمم المتحدة، كما نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة A/RE/٦٨”.
وأضاف: "وأيضا -إن لزم الأمر- استخدام الدعاوى القضائية الدولية، حيث من المهم ضرورة الاحتكام إلى المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان مثل المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان كما في قضية جمعية المحامين الكولومبية لفرض عقوبات على الدول التي تعرقل عمل المنظمات المدنية".
الرقابة الدولية
في ظل التحذيرات الأممية بشأن تقلص الحيز المدني وتأثيره على دعم ضحايا التعذيب، يرى المحامي الحقوقي والخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، أن تجاوز هذه العقبات يستلزم تبني أربعة مسارات أساسية.
وشدد الدنبوقي في تصريحه لـ"جسور بوست" على ضرورة التزام الدول بتعهداتها الدولية، مشيرًا إلى أن المادة 2 من اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT) تلزم الدول باتخاذ تدابير فعالة لمنع التعذيب، بما في ذلك حماية المنظمات المدنية التي تدعم الضحايا.
وأضاف أن هذا الالتزام يتعزز عبر المادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تؤكد حق الأفراد في تشكيل الجمعيات والمشاركة في الأنشطة المدنية، وهو حق يتوجب على الحكومات حمايته.
كما لفت إلى أهمية إعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان (1998)، الذي يُلزم الدول بتوفير بيئة آمنة للمنظمات الحقوقية، ويمنع التضييق عليها عبر تشريعات مقيدة، مثل قوانين التمويل الأجنبي التي تعيق عمل المجتمع المدني.
يرى الدنبوقي أن إحدى الأدوات الفعالة لمواجهة التضييق على المجتمع المدني تكمن في تعزيز الرقابة الدولية، من خلال تفعيل دور اللجنة الفرعية لمنع التعذيب، في مراقبة التزام الدول بحماية المنظمات المدنية، واستخدام تقاريرها للضغط على الحكومات المخالفة، فضلا عن دعم جهود المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب، عبر توثيق انتهاكات الحيز المدني في تقارير حقوقية مستقلة، ورفعها إلى مجلس حقوق الإنسان لمناقشتها واتخاذ إجراءات بشأنها.
وأكد الدنبوقي أهمية استخدام الآليات الدبلوماسية والمالية للحد من الانتهاكات، من خلال الاستفادة من آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) في مجلس حقوق الإنسان، لتسليط الضوء على الانتهاكات الموجهة ضد المنظمات الحقوقية، وإلزام الحكومات بتحسين بيئة العمل المدني.
يأتي ذلك إلى جانب ربط المساعدات الدولية بتحسين البيئة التشريعية والقانونية، بحيث تشترط أي مساعدات مالية أو تنموية من الأمم المتحدة ضمان الحماية القانونية للمنظمات الحقوقية، وتطبيق مبدأ “الشراكة مع المجتمع المدني” في برامج الأمم المتحدة، كما نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لضمان دمج المنظمات الحقوقية في صنع السياسات والقرارات المتعلقة بحماية الضحايا.
وكحل أخير، يرى الدنبوقي أن الدعاوى القضائية الدولية تلعب دورًا حاسمًا في مواجهة الدول التي تعرقل عمل المجتمع المدني، ويوضح أن هذا يمكن تحقيقه من خلال اللجوء إلى المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان، مثل المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان، التي أصدرت حكمًا مهمًا في قضية جمعية المحامين في كولومبيا، بعد تعرض أعضائها للمضايقات والرقابة والتضييق الممنهج.
إلى جانب فرض عقوبات قانونية على الدول التي تنتهك حقوق المنظمات المدنية، من خلال استخدام الأحكام الدولية كسابقة قانونية يمكن البناء عليها في قضايا مماثلة، وفق رأيه.
المضايقات القانونية
عن مدى كفاية تلك المساعدات، قال الحقوقي رضا الدنبوقي: "وفقاً لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2024، واجه الصندوق الأممي لضحايا التعذيب عجزاً قدره 7.69 مليون دولار لتمويل منح عام 2025، ما يعكس عدم كفاية الموارد مقارنة بالاحتياجات الفعلية.
وأشار إلى أن التحديات لا تقتصر على العجز المالي، بل تشمل أيضاً "المضايقات القانونية مثل قوانين التمويل الأجنبي، والاعتداءات المباشرة على العاملين في المجال الحقوقي، بالإضافة إلى صعوبات التحويلات المالية".
ووفقاً للدنبوقي، يمكن معالجة هذه التحديات عبر ثلاثة محاور رئيسية، أولها تعزيز الالتزامات المالية للدول وتفعيل المادة 26 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969)، التي تلزم الدول بتنفيذ تعهداتها بحسن نية، بما في ذلك تمويل الصندوق الأممي لضحايا التعذيب، إضافة إلى مطالبة الدول الغنية بالوفاء بالتزامها بتخصيص 0.7% من ناتجها القومي الإجمالي للمساعدات الإنسانية، وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما المحور الثاني فيتمثل في توفير الحماية القانونية للمنظمات الحقوقية، من خلال الالتزام بالمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان لعام 2016، والتي تفرض على الدول اتخاذ التدابير الكفيلة بحماية هؤلاء العاملين من التهديدات والاعتقالات التعسفية، فضلاً عن تفعيل المادة 12 من اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تلزم الدول بالتحقيق في الانتهاكات التي يتعرض لها مقدمو المساعدات وملاحقة المسؤولين عنها قضائيا.
ويكمل الدنبوقي المحور الثالث بمعالجة المساءلة الدولية، وذلك من خلال "رفع دعاوى أمام اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بموجب البروتوكول الاختياري للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في حال تعرض العاملين في المجال الحقوقي للمضايقات، إضافة إلى تفعيل الاختصاص العالمي لمحاكمة مرتكبي التعذيب، وفقاً للمادة 5 من اتفاقية مناهضة التعذيب، حتى لو وقعت الجريمة خارج إقليم الدولة".
كما شدد على أهمية المادة 14 من اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تلزم الدول بضمان توفير سبل الإنصاف والتعويض وإعادة التأهيل للضحايا، فضلاً عن المادة 1 من إعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان، التي تكفل لكل شخص، سواء فردياً أو جماعياً، الحق في تعزيز وحماية حقوق الإنسان على المستويين الوطني والدولي.
وخلص الدنبوقي إلى أن "مواجهة تقلص الحيز المدني تتطلب التزاماً صارماً بالمواثيق الدولية، وضغطاً متواصلاً من خلال آليات الأمم المتحدة، إضافة إلى تمويل مستدام يضمن استقلالية المنظمات الحقوقية"، مؤكداً أن "حماية مقدمي المساعدات تستدعي تفعيل نصوص الاتفاقيات الدولية ومحاسبة المنتهكين على المستويين الوطني والدولي".
خطوات الدعم
من جانبه، أكد الحقوقي الدولي عبد المجيد مراري، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "المخاوف الأممية بشأن تقلص الحيز المدني لمساندة الضحايا تعكس تصاعد القيود المفروضة عليه، مما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة على المستويين المحلي والدولي".
وأوضح مراري أن أولى هذه الخطوات تكمن في "إقرار حماية قانونية لمقدمي المساعدات، حيث تواجه المنظمات الحقوقية ضغوطاً ومضايقات متزايدة من قبل السلطات، ما يستدعي ممارسة ضغط دولي من خلال الهيئات الأممية لإقرار تشريعات تحمي الناشطين والمنظمات من الاستهداف".
أما الخطوة الثانية فتتمثل في "تعزيز آليات المساعدات الدولية على المستوى الأممي والإقليمي، عبر رفع قضايا أمام الهيئات الحقوقية والمحاكم الدولية ضد الحكومات التي تنتهك حقوق مقدمي المساعدات، بالإضافة إلى تفعيل الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية مناهضة التعذيب، كوسيلة ضغط على الدول التي تقيد الحيز المدني".
وأشار الخبير الحقوقي إلى أن الخطوتين الثالثة والرابعة تتعلقان بـ"إيجاد بدائل للتمويل الرسمي، حيث تستخدم بعض الحكومات قطع التمويل كأداة ضغط على المنظمات الحقوقية، ما يستدعي البحث عن حلول مبتكرة مثل إنشاء منصات رقمية مستقلة تجمع التبرعات وتنشر المعلومات، لتفادي الحجب والقيود الحكومية".
كما أكد أهمية "استخدام الضغط الإعلامي وفضح الانتهاكات عبر وسائل الإعلام الدولية، بالتوازي مع الضغط الدبلوماسي من خلال حشد تأييد عالمي ضد الدول التي تمارس التضييق على الحيز المدني، وفرض عقوبات عليها، وهو نهج سبق أن تبنته مؤسسات دولية مثل المجلس الأوروبي".
وفي ما يتعلق بكفاية المساعدات المالية لتعزيز الحيز المدني، أوضح مراري أن "التمويل وحده ليس كافياً، إذ لا يمكن إيصال الدعم للضحايا في ظل القيود المفروضة على المنظمات الحقوقية، ما يستوجب الجمع بين الدعم المالي، والحماية القانونية، والضغط الدبلوماسي لضمان بيئة آمنة ومستدامة للمساعدات الإنسانية".