«قَتل الشهود».. استهداف الصحفيين في غزة جريمة حرب تفضح الصمت الدولي

كيف تحولت السترة الصحفية إلى شارة استهداف؟

«قَتل الشهود».. استهداف الصحفيين في غزة جريمة حرب تفضح الصمت الدولي
تشييع جثمان أحد الصحفيين في غزة- أرشيف

لم تمضِ ساعات قليلة على عودة الصحفي الفلسطيني حلمي الفقعاوي من تغطية قصف إسرائيلي لمنزل وسط مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، حتى بات استشهاده نتيجة قصف إسرائيلي لخيمته الصحفية بجوار مجمع ناصر الطبي الخبر التالي الأبرز ذلك اليوم.

الصحفي الفقعاوي كان يهم بتجهيز مادته الإعلامية، رفقة زميله الصحفي أحمد منصور الذي استشهد حرقًا نتيجة ذات الغارة التي استهدفت خيمتهم فجر يوم الأربعاء 7 أبريل الجاري.

لكن هذا القصف المُباغت الذي خلّف شهداء وإصابات في صفوف الصحفيين، لم يكن سوى حلقة في سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية للجسم الصحفي المستمرة، والتي أخذت طابعها الأشد فتكًا منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع.

يصف الصحفي عبد الرؤوف شعت، حادثة الاستهداف بأنها الأقسى على نفسه منذ بداية الحرب، حيث حاول جاهدًا إنقاذ زملائه من الحريق الذي نشب بخيمتهم.

بكثير من الأسى يقول شعت لـ"جسور بوست"، إن هذا الموقف المؤلم لن يتخطى ذاكرته، "فكم هو مؤلم أن تشاهد زميلك الصحفي يحترق وتقف عاجزًا أمامه، وبإمكانيات بسيطة تحاول إنقاذه".

ويضيف المُصوّر الفلسطيني: "لم أتمالك نفسي وخرجت من خيمتي لاستطلاع مكان الاستهداف وفوجئت أنه لا يبعد سوى عدة أمتار عني".

وتابع شعت قائلاً: "خرجت لتغطية هذا الحدث مصطحبًا كاميرتي الصحفية، لكن مشاعري الإنسانية سبقتني لإنقاذ زميلي أحمد رغم إدراكي حجم المخاطر التي كانت في المكان".

استهداف مُمنهج

ويواجه الصحفيون الفلسطينيون في قطاع غزة، مأساة حقيقية نتيجة استهدافهم المباشر والممنهج من قبل الجيش الإسرائيلي، في محاولة لوأد الصورة وقتل الكلمة وتغييب حقيقة الجرائم التي ترتكب يوميًا في غزة.

وعلى ذات المعاناة يعيش الصحفي أسامة الكحلوت حالة من الذهول والصدمة؛ نتيجة ظروف عمله الخطيرة في أماكن التغطية، وتكرار عمليات النزوح، واستمرار التغطية في ظل مشاهد الدماء والضحايا من الأطفال والنساء، التي باتت عالقة في ذهنه كما يقول لمراسل "جسور بوست".

ويضيف الكحلوت أن "حالة الفقد والحزن تسيطر على مشاعره نتيجة كل استهداف بحق الصحفيين، ليكون الخوف بأننا ربما سنكون الرقم التالي في عداد هذا الموت المجحف".

ويشير مراسل قناة الحدث إلى أن التحديات التي تواجهه خلال عمله تتمثل في انعدام مقومات العمل من المعدات الصحفية أو معدات السلامة المهنية وحتى وسائل المواصلات للتنقل بين الأماكن لسرعة مواكبة التغطية الميدانية.

ورغم كل هذا الألم، فإن الكحلوت يرى أن هذا واجب الصحفيين في ظل ما يتعرض له الفلسطينيون من تعتيم إعلامي، وأن صوت الصحفيين وصل للعالم واستطاعوا نقل الرسالة وتوصيل المعاناة، وهذا هو السبب الحقيقي لاستهدافهم بحسب ما يؤكد الكحلوت.

مؤشرات خطيرة

بدوره، يقول نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين د. تحسين الأسطل "إن حجم وخطورة الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون خلال الحرب أصبحت تشكل خطرًا كبيرًا على كل ما هو صحفي، وعندما نتحدث عن استشهاد 2012 من الصحفيين بغزة من أصل 1050 فهذا رقم لا يضاهي أي وضع في أي حرب أو أي صراع حتى إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية".

حراك نقابي

وأضاف الأسطل في حديثه لـ"جسور بوست": "وثّقت النقابة كل هذه الانتهاكات وأخذت الإفادات القانونية وفق شروط وما تتطلبه محكمة الجنايات الدولية التي تثبت أن السلطات الإسرائيلية ماضية في ارتكاب جرائم الحرب بحق الصحفيين".

وذكر النائب أن هناك تنسيقاً مستمراً بين النقابة وكل الهيئات والاتحادات والنقابات الصحفية العربية والدولية لاطلاعهم على ما يجري من انتهاكات بحق الصحفيين ومحاسبة قادة إسرائيل على تلك الجرائم.

وأشار الأسطل إلى أن مسؤول سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالاتحاد الدولي للصحفيين يجري زيارة إلى رام الله لمتابعة ظروف الصحفيين في الضفة الغربية وقطاع غزة عن كثب، وكذلك ظروف عمل المؤسسات وما يجري لها من اعتداءات إسرائيلية متكررة.

كما بيّن الأسطل حرص النقابة على التعاون مع المنظمات الإعلامية العربية والإقليمية بما فيها الاتحاد العام  للصحفيين العرب واتحاد صحفيي غرب آسيا؛ من أجل تقديم كل ما يُمكن لمساندة الصحفيين الفلسطينيين، والتشاور حول الأساليب القانونية والنقابية، من أجل وقف هذه الانتهاكات بحق الأسرة الصحفية الفلسطينية.

وشدد الأسطل على أن إسرائيل تحاول من وراء هذا الاستهداف إبقاء قطاع غزة صندوقًا أسود، بحيث لا يرى العالم ما يحدث من جرائم إسرائيلية بحق الفلسطينيين.

ونقلاً عن الصحافة الإسرائيلية، ذكر نائب النقيب الإعلامي أن السلطات الإسرائيلية منعت 4 آلاف صحفي أجنبي، من بينهم أكثر من 800 صحفي أمريكي، من دخول القطاع وتغطية ما يجري بداخله.

ولفت الإعلامي إلى أن ذلك يعكس مدى إصرار إسرائيل على طمس الحقيقة وتغييب أي رواية ضده، مطالبًا الهيئات الإعلامية الدولية والمنظمات الأممية والهيئات الحقوقية بالضغط على إسرائيل للسماح لوسائل الإعلام الدولية بالدخول لقطاع غزة ونقل ما يجري فيه من ويلات إنسانية.

إبادة إعلامية

من جانبه، شدد نائب مدير دائرة البحث الميداني بالمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ياسر عبد الغفور، على أن استهداف إسرائيل للصحفيين الفلسطينيين خلال الحرب هو بمثابة استهداف ممنهج ومتعمد، ويشكل خرقًا صارخًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف، التي تحظر استهداف المدنيين ومن في حكمهم، مثل الصحفيين.

وقال عبد الغفور في تصريحات لـ"جسور بوست": عندما يتم استهداف الصحفيين رغم وضوح هويتهم ومهنتهم، فإن ذلك يرقى إلى جريمة حرب، وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وخاصة المادة 8 التي تجرّم "تعمد توجيه هجمات ضد المدنيين". 

وأضاف عبد الغفور: من دون شك فإن استمرار الجيش الإسرائيلي في استهداف وقتل الصحفيين بشكل متصاعد (212 حتى الآن) يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن القتل عمدي ومقصود بهدف ترهيبهم وتخويفهم ومنعهم من نقل الحقيقة للعالم، وهو جزء لا يتجزأ من جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وشدد الباحث بالمركز على أن تلك الانتهاكات تمثل انتهاكًا صريحًا لاتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، الذي ينص على حماية الصحفيين العاملين في مناطق النزاع بصفتهم مدنيين، كما أنها تخالف القرار 2222 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، والذي شدد على ضرورة حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة.

وتابع عبد الغفور قائلاً: إسرائيل تدوس كل القوانين ومواثيق حقوق الإنسان وتواصل ارتكاب أبشع جريمة إبادة جماعية في العصر الحديث.

توثيق للجرائم

ولفت الباحث القانوني إلى أن المركز وثّق مئات الحالات لاستهداف صحفيين ومؤسسات إعلامية، قائلاً: “هناك توثيق لمقتل 211 صحفيًا، جزء منهم خلال عملهم، والبقية خلال قصف المنازل عليهم ضمن محاولات الترهيب وتكميم الأفواه، التي بلغت منحنى خطيرا باستهداف عوائل الصحفيين وإرسال رسائل تهديد لهم بقتلهم أو قتل أفراد أسرهم إن لم يتوقفوا عن النشر”. 

كما جرى توثيق إصابة واعتقال عشرات الصحفيين، بحسب عبد الغفور، ولا يزال أحد هؤلاء الصحفيين على الأقل يعاني من الإخفاء القسري ومصيره مجهولاً.

ونوّه عبد الغفور إلى أن آلة الحرب الإسرائيلية دمرت أغلب مقرات وسائل الإعلام المحلية والدولية، ومنعت الصحفيين الأجانب من الوصول الحر إلى قطاع غزة.

شكاوى قانونية

وبيّن الحقوقي الفلسطيني أن فرق المركز القانونية رفعت شكاوى إلى المُقررين الخاصين للأمم المتحدة، كما نسقت مع مؤسسات حقوقية دولية لدفع عجلة المساءلة، توازيًا مع العمل على تجهيز ملفات تُقدَّم للمحكمة الجنائية الدولية.

وحول جهود تنسيق المركز مع الجهات الدولية، لفت عبد الغفور إلى أن تواصلهم مستمر مع هيئات أممية كالمفوضية السامية لحقوق الإنسان، والمقررين الخاصين بحرية التعبير وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى مجلس حقوق الإنسان. 

مساءلة طي المجهول

وشدد عبد الغفور على أن غياب الإرادة السياسية لدى بعض الدول المؤثرة، خاصة تلك التي توفر غطاءً سياسيًا وعسكريًا لإسرائيل، أسهم في إفلاتها من العقاب.

واعتبر الباحث الحقوقي أن بطء الإجراءات القضائية الدولية، وضعف تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، شكّلا بيئة آمنة للاستمرار في الانتهاكات ضد الصحفيين دون محاسبة.

لكن ورغم كل ذلك يؤكد عبد الغفور أنهم لن يتوقفوا عن هذا السعي، قائلاً: “سنستمر في التحرك على كل الأصعدة لضمان المساءلة لمرتكبي الإبادة والإنصاف للضحايا وذويهم”.

وعلى مدار عمر هذه الحرب وما قبلها، لم يقتل الجيش الإسرائيلي الصحفيين الفلسطينيين نتيجة حوادث عرضية، بل وفقًا لسياسة استهداف ممنهجة ومقصودة، بحسب تقارير صحفية ودولية تحولت من خلالها سترتهم الواقية إلى شارة للاستهداف.

وفق بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفع عدد الشهداء من الصحفيين إلى 211 شهيداً منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.

وأسفرت الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة منذ أحداث السابع من أكتوبر لعام 2023 عن استشهاد أكثر من 50 ألف شخص وإصابة أكثر من 115 ألفًا، معظمهم من المدنيين النساء والأطفال، وفقًا لبيانات وزارة الصحة في غزة، والتي تعدها الأمم المتحدة موثوقة، وسط أزمة واحتياجات إنسانية هائلة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية