من قلب المعاناة إلى كرسي البابوية.. "لاوون الرابع عشر" بابا الفقراء وأيقونة الرحمة في زمن اللامبالاة
من قلب المعاناة إلى كرسي البابوية.. "لاوون الرابع عشر" بابا الفقراء وأيقونة الرحمة في زمن اللامبالاة
في الثامن من مايو 2025، حين خرج الكاردينال دومينيك مامبيرتي ليعلن إلى العالم اسم الحبر الأعظم الجديد، لم يكن صوت الجموع في ساحة القديس بطرس مجرد احتفاء بانتخاب البابا رقم 267 في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، بل كان تعبيرًا عن توقٍ عالمي لشخصية قادرة على بث الروح في صلب الكنيسة، وإعادة الوصل بينها وبين قضايا الإنسان العادي، المظلوم، والمنسي.
كان الاسم الذي رُفع من فوق شرفة الكنيسة: لاوون الرابع عشر، والوجه كان وجه رجل أمضى عمره يتنقل بين الأزقة الفقيرة، والقرى المنسية، والمجتمعات التي نسيتها السياسات، إنه الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست، المولود في شيكاغو، المبشّر في بيرو، والمُجترح في صمت من جذور الرهبانية الأوغسطينية.
من شيكاغو إلى بيرو
في عام 1955، وُلد بريفوست في شيكاغو، ونشأ في بيئة وسطى تعلّم فيها معادلات الرياضيات كما تعلّم تعقيدات الحياة في المدن الأمريكية المتأرجحة بين الرخاء والفقر، كان بإمكانه أن يختار مسارًا أكاديميًا بحتًا، لكنه، في عام 1977، اتخذ القرار الجذري بالانضمام إلى رهبانية القديس أغسطينوس، واضعًا علومه في خدمة الرحمة.
بعد نيله الماجستير في اللاهوت والدكتوراه في القانون الكنسي، حمل كتبه، ولبس ثوبه الرهباني، وتوجّه إلى بيرو في منتصف الثمانينيات، في فترة كانت البلاد تشهد اضطرابات سياسية وازدهارًا للجماعات المسلحة، خاصة جماعة "الدرب المضيء"، هناك لم يكن فقط "كاهنًا أجنبيًا"، بل صار صديقًا للفقراء، ومرافقًا لضحايا العنف، ومدافعًا عن حقوقهم داخل الكنيسة وخارجها.
شاهد على المعاناة الإنسانية
في قلب بيرو، حيث يئن المجتمع من وطأة الفقر، والعنف، والظلم، برز الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست كأحد الأصوات الهادرة التي جمعت بين الإيمان الحي والعدالة الاجتماعية، لم يكن بريفوست، الذي عمل في بيرو لعقود، مجرد كاهن يؤدي الطقوس الدينية، بل كان شاهدًا على المعاناة الإنسانية، مدافعًا عن المظلومين، وباحثًا عن حلول عملية للمشاكل التي تواجه المجتمعات الضعيفة.
منذ وصوله إلى بيرو في منتصف الثمانينيات، بدأ بريفوست في العمل على الأرض بعيدًا عن الأبراج العاجية للكنيسة، شارك بجد في بناء ملاجئ للمشردين، وأسس مدارس للتعليم، خاصة للأطفال في الأحياء الفقيرة، كان يضع كل قدراته في خدمة من يعانون من قسوة الحياة: الفقراء، والعاطلين عن العمل، والنساء اللواتي تخلت عنهن الدولة، كان يتنقل بين الأحياء الشعبية المزدحمة التي عانت من العنف المستمر، ناشطًا في حل مشاكلهم الحياتية، كما كان يشرف شخصيًا على مشاريع تحسين وضع المعيشة للمحتاجين.
خلال إحدى العظات التي ألقاها في عام 1991 في مدينة تروخيو، والتي تم نقلها في الصحف المحلية، قال بريفوست: "الإنجيل لا يُبشَّر من فوق المنابر فحسب، بل من حضن من فقدوا أبناءهم في العنف، ومن وجوه الجياع الذين يرون الله في لقمة تأتي متأخرة"، وهذه الكلمات كانت تعبيرًا حقيقيًا عن لاهوته الذي يجسد الرحمة والنضال من أجل العدالة، لقد كان يعتقد أن الكنيسة يجب أن تكون في قلب المعركة من أجل الكرامة الإنسانية، وأن المؤمنين يجب أن يروا في الإيمان دعوة للخدمة والعدالة.
لم يكن بريفوست مجرد رجل دين؛ بل كان صديقًا للأحياء الفقيرة. فقد عُرف بلقب "الأسقف الذي يعرف أسماء الجميع"، إذ حافظ على علاقة شخصية وعميقة مع أبناء رعيته، لم يكن يخشى النزول إلى الشوارع، أو حضور الجنائز التي شهدت وفاة ضحايا العنف، بل كان يحرص على إصغائه الجيد لقصص المهمّشين، ويمنحهم الوقت الكافي ليشعروا بأن صوتهم مسموع. كان يُعتبر في نظر الكثيرين كأب حقيقي لهم، في ظل غياب الدولة عنهم.
ومما لا شك فيه، أن تأثير بريفوست في بيرو لم يكن محدودًا في نطاق الكنيسة فقط، بل كان له دور عميق في تحفيز المجتمع على الوقوف ضد الفقر والعنف الذي كان يعصف بالعديد من المدن البيروفية.
دفاعه عن المهاجرين
في عالم السياسة المعقد، حيث تتشابك القرارات مع تأثيرات اجتماعية عميقة، كان الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست أحد الأصوات القوية التي رفضت الانصياع للتيارات السياسية السائدة، خصوصًا في ما يتعلق بسياسات الهجرة، وكان موقفه في الدفاع عن حقوق المهاجرين، لا سيما خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، شاهداً على إيمانه العميق بأن المسيحية لا يمكن أن تُختصر في حدود القوانين أو السياسات الجافة.
في الولايات المتحدة، حيث كانت سياسة الهجرة قد وصلت إلى مستويات من الصرامة، كان بريفوست يراقب عن كثب ما يحدث، كان القلق واضحًا بشأن سياسات ترحيل المهاجرين، وبخاصة قرار إدارة ترامب بترحيل العديد من الأفراد الذين كانوا قد عاشوا لسنوات طويلة في الولايات المتحدة، وفي إحدى الحوادث اللافتة التي أثارت ضجة، أعاد الكاردينال بريفوست نشر تعليق على وسائل التواصل الاجتماعي ينتقد فيه ترحيل مهاجر إلى السلفادور، وكتب قائلاً: "المسيح لم يطلب منا يومًا أن نُصنّف محبتنا، ولا أن نقيسها حسب القوانين، بل أن نمنحها كما نمنح الروح."
هذه الكلمات لم تكن مجرد رد فعل ضد قرار سياسي؛ بل كانت دعوة لجعل الرحمة والإحسان معيارًا، لا القوانين الصارمة التي تُقيّد الإنسانية.
تجدر الإشارة إلى أن بريفوست، في مواقف مماثلة، كانت له القدرة على التعبير عن مفاهيم إنسانية عميقة، متجاوزًا الحدود المكانية والسياسية، ففي مقابلة مع صحيفة "National Catholic Reporter"، قال بريفوست: "أن نكون كاثوليك يعني أن نكسر جدران الخوف، لا أن نبنيها، وأن نرى في الغريب ليس تهديدًا بل فرصة للرحمة."
كانت هذه الكلمات أكثر من مجرد تصريح؛ فهي تعكس فلسفته في الحياة المسيحية، التي تركز على الرحمة تجاه الآخر، خاصة في الأوقات التي يواجه فيها الناس صعوبات هائلة مثل الهجرة والنزوح.
وفي مواجهة السياسات التي كانت تصر على تجريم المهاجرين، سواء كانوا من أمريكا اللاتينية أو من أي منطقة أخرى، ظل بريفوست ثابتًا في مواقفه الإنسانية، وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الأرقام التي تبرز حجم المشكلة، فوفقاً تقرير مكتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، كان هناك أكثر من 25 مليون لاجئ في عام 2021، وهو رقم يشير إلى حجم الأزمة التي يواجهها المهاجرون، بما في ذلك أولئك الذين يتم ترحيلهم أو الذين يعانون من ظروف معيشية صعبة.
وبينما كانت العديد من الكنائس داخل الولايات المتحدة تحجم عن اتخاذ مواقف حاسمة ضد سياسة ترامب، برز بريفوست كأحد أبرز الوجوه التي تمثل تيارًا إصلاحيًا وإنسانيًا داخل الفاتيكان، ولم يكن بريفوست يقتصر على نقد السياسات، بل كان يشارك بنشاط في تقديم الدعم الروحي والمادي للمهاجرين، ففي بعض الأحيان، كان يزور مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها المهاجرون، ويقوم بتقديم المشورة لهم، ويجعلهم يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم في معاناتهم.
كثيرًا ما كان يُنظر إلى مواقفه كنوع من التحدي للمؤسسة الكنسية التقليدية التي كانت تحتفظ بسياسات محافظة في العديد من القضايا الاجتماعية، ومع ذلك، فقد كان بريفوست يصر على أن المسيحية الحقة تدعونا إلى التضامن مع الضعفاء، بدلاً من تبني مواقف تسهم في تعزيز الانقسامات بين البشر، ومن هنا، يمكن القول إن مواقفه تجاه المهاجرين كانت تمثل نموذجًا إنسانيًا يُحتذى به، وقوة تغيير حقيقية في مشهد الكنيسة الكاثوليكية المعاصر.
مواقفه من فضائح الانتهاكات
في خضم الأزمات التي عصفت بالكنيسة الكاثوليكية، لا سيما في مناطق مثل بيرو، برز الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست كأحد الأصوات الملتزمة بالشفافية والمحاسبة في مواجهة فضائح الانتهاكات الجنسية التي طالت العديد من رجال الدين، ففي وقت كانت فيه العديد من المؤسسات الكنسية تتبنى سياسة الصمت أو الإنكار، وقف بريفوست كمنارة للمطالبة بالعدالة والمساءلة، مؤكدًا على أن الحفاظ على كرامة الضحايا يجب أن يكون الأولوية.
في عام 2016، عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية في بيرو تواجه أصداء تلك الفضائح، أصدر بريفوست رسالة رعوية تم توزيعها على أبرشيته، وحملت كلمات قوية وجريئة كان منها: "من لا يحمِ الأطفال لا يحق له الحديث عن المحبة، العدالة ليست عدوة الرحمة، بل أختها التي تكشف الوجه الحقيقي لله."
كانت هذه الكلمات بمثابة نداء صادق للمجتمع الكنسي، يشير بوضوح إلى ضرورة معاقبة المتورطين في تلك الجرائم المروعة وضمان أن العدالة ستسير جنبًا إلى جنب مع الرحمة، لقد كان يرفض تمامًا أي محاولة لإخفاء الحقيقة، وهو ما جعله يتمتع بمصداقية عالية بين أتباعه في وقتٍ كانت الكنيسة فيه في حاجة ماسة إلى إعادة بناء الثقة المفقودة.
وعلى الرغم من الضغوط التي كانت تمارس على المؤسسات الكنسية في بيرو لمواصلة سياسة التستر، اختار بريفوست الطريق الصعب، وهو طريق المكاشفة والشفافية، ونفت أبرشيته بشكل قاطع أي تورط أو محاولة للتستّر على أي من الحالات المزعومة، وأكدت أنها تعاونت بالكامل مع لجان التحقيق المختصة، وهذا الموقف الجريء لم يكن فحسب استجابةً للضغط العام، بل كان تجسيدًا لمبدأ المسؤولية التي طالما آمن بها بريفوست في قيادته الكنسية.
لكن موقفه لم يتوقف عند مجرد إصدار البيانات أو دعوات للعدالة، فقد أطلق بريفوست، في إطار خطواته الوقائية، برنامجًا للتثقيف الكنسي حول أخلاقيات الخدمة والتبليغ، وهو ما اعتُبر من بين المبادرات الرائدة في أمريكا اللاتينية، وتم تصميم هذا البرنامج بهدف تعليم رجال الدين والعاملين في الكنيسة كيفية التعرف على حالات الانتهاكات وحمايتها، وكيفية التعامل معها بالشكل الذي يضمن حماية الضحايا واحترام حقوقهم. كان هذا البرنامج نقطة تحول في كيفية معالجة الكنيسة الكاثوليكية لهذه القضية الحساسة على مستوى القارة اللاتينية.
وفقًا للتقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان، فإن أعداد الحالات الموثقة لانتهاكات جنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية كانت في ازدياد مع مرور السنوات، وتجاوزت هذه القضية نطاق الانتهاك الفردي لتصبح أزمة مؤسسية تهدد سمعة الكنيسة وتزعزع الثقة العامة بها. في هذه الأوقات العصيبة، كانت مواقف بريفوست تُمثل طوق نجاة لأبناء الكنيسة الباحثين عن الأمل في الإصلاح والتغيير.
على الرغم من الجهود التي بذلها بريفوست، كان لا يزال أمام الكنيسة تحديات هائلة في مواجهة هذه الفضائح، فوفقًا لتقرير اللجنة البابوية المستقلة التي تم تشكيلها في الفاتيكان، فإن الكنيسة الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم شهدت آلاف الحالات الموثقة من الانتهاكات الجنسية التي ارتكبها رجال الدين بحق الأطفال والشباب، ففي تقرير لعام 2020، أشار إلى أن أكثر من 10,000 ضحية تم التعرف عليها في مختلف أنحاء العالم خلال العقدين الأخيرين فقط، وهذا الرقم كان بمثابة تذكير قاسي للكنيسة بضرورة الإصلاح العميق.
لكن ما يميز بريفوست عن غيره من القيادات الكنسية في تلك المرحلة هو إيمانه الراسخ بأن العدالة لا تتعارض مع الرحمة، بل هي أداة لتحقيقها، وقد سعى إلى إرساء ثقافة من المسؤولية والمساءلة داخل الكنيسة، وهو ما ساعد على فتح الطريق أمام إصلاحات حقيقية ومؤثرة داخل المؤسسة الدينية.
من خلال هذه المواقف، رسم بريفوست صورة رجل دين يضع القيم الإنسانية والعدالة في مقدمة أولوياته، حتى وإن كانت هذه القيم تتعارض مع سياسات أو ممارسات الكنيسة التقليدية.
بيئة لا تُختزل في الأشجار
كان البابا ليو الرابع عشر معروفًا بمواقفه الثابتة تجاه قضايا البيئة، لكن اهتمامه لم يقتصر فقط على حماية الأشجار والمحميات الطبيعية، بل اتخذ القضية البيئية منبراً للدفاع عن الفقراء والمهمشين، ولم يكن يراها مجرد قضية بيئية ضيّقة تتعلق بحماية الطبيعة فحسب، بل كان يربطها بشكل عضوي بالعدالة الاجتماعية، وكان دائمًا يؤكد أن تدهور البيئة لا يشكل تهديدًا للطبيعة فقط، بل أيضًا للعدالة الاجتماعية، حيث أن الفقراء هم أول من يدفع الثمن عندما يتدهور المحيط الذي يعيشون فيه.
في أحد اللقاءات الرعوية في عام 2022، قال البابا ليو الرابع عشر في كلمات صادقة ومؤثرة:
"عندما نحمي الأرض، نحن في الواقع نحمي الفقراء، لأنهم أول من يتضرر حين نلوثها."
هذه الكلمات جاءت في وقت كانت فيه أزمة التغير المناخي قد تفاقمت بشكل غير مسبوق، حيث أصبح الفقراء والمجتمعات الهشة في مختلف أنحاء العالم يواجهون عواقب هذه التغيرات بشكل أكبر من أي وقت مضى، فبالنسبة له، كانت القضايا البيئية تشكل امتدادًا لصراع أوسع من أجل العدالة الاجتماعية، لا يمكن فصله عن معاناة الناس الذين يعيشون في الأحياء العشوائية، حيث يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة مثل المياه النظيفة والهواء النقي.
وشدد البابا لاوون الرابع عشر على أهمية الاعتراف بأن العدالة البيئية لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يكون هناك احترام لكرامة الإنسان، خاصة لأولئك الذين يعيشون في الأحياء التي تتعرض بشكل يومي للتلوث والضرر البيئي، وهو كان يربط بين تدهور البيئة والتدهور الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الاستدامة البيئية ليست رفاهية، بل حق من حقوق الإنسان.
من خلال دعمه الوثيقة البابوية الشهيرة "لاوداتو سي" التي كتبها البابا فرنسيس في 2015، والتي تركز على أهمية حماية البيئة كجزء من رسالة الكنيسة الاجتماعية، شارك البابا لاوون الرابع عشر في صياغة الملاحق المحلية لتطبيق هذه الوثيقة في أمريكا اللاتينية، كانت هذه الوثيقة بمثابة دعوة عالمية للتغيير، ليس فقط من أجل الأرض، ولكن من أجل الناس الذين يواجهون التهديدات الناجمة عن التلوث والفقر.
أما بالنسبة للمنطقة اللاتينية، فقد كان البابا لاوون الرابع عشر حريصًا على التأكيد أن الاستدامة البيئية لا تنفصل عن الكرامة الإنسانية، بل هي جزء لا يتجزأ من النضال من أجل حياة أفضل لجميع البشر، خاصة أولئك الذين لا يملكون القوة الاقتصادية للتصدي للآثار السلبية لهذه الأزمات البيئية.
وقد اتخذ البابا موقفًا حاسمًا ضد السياسات التي تزيد من تفاقم الأزمات البيئية، محذرًا من أن الأرض ستظل تئن من التدمير ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لإنقاذها، وهو ما يعكس إيمانه العميق بأن البيئة والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن تُفصل عن بعضها البعض.
في الفاتيكان.. "رجل التفاصيل والصمت"
في عام 2023، حين اختار البابا فرنسيس الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست ليكون رئيسًا لدائرة الأساقفة، لم يكن هذا التعيين مجرد تكريم لمسيرته الطويلة في الكنيسة، بل كان أيضًا تعبيرًا عن ثقة عميقة في حكمته الهادئة وفطنته الاستثنائية، فبينما يتميز كثير من رجال الكنيسة بوجود أصوات عالية وصراخ موجه نحو الرأي العام، كان بريفوست معروفًا بصمته الذي يتحدث بصوت أعلى من أي كلمة قد ينطق بها.
على الرغم من أنه لم يكن أحد الأسماء الأكثر تداولًا في وسائل الإعلام قبل انتخابه، فقد كان صيته داخل المجمع الكنسي حافلًا بالحكمة الهادئة التي تعتمد على الاستماع العميق، وليس على الظهور الإعلامي أو التصريحات المثيرة، فالكاردينال بريفوست كان يحمل "روحًا نبوية" حسب تعبير أحد الكرادلة الذين شهدوا على قدراته القيادية، ومن خلال قدرته الفائقة على الاستماع والتأمل في قضايا الكنيسة، لم يكن يُرى كـ "رجل تفوقه الكلمات"، بل "رجل التفاصيل الصامتة" الذي يعرف كيف يصلح الأوضاع من خلال الاستماع أولًا.
وصفه أحد زملائه في الفاتيكان قائلاً: "هو لا يصرخ، لكنه يسمع كل شيء، ولا يتحدث كثيرًا، لكن كل كلمة منه تحمل وزنًا"، وهذه كانت سمة حاسمة في شخصيته حيث التركيز على التفاصيل الدقيقة التي غالبًا ما يغفلها الآخرون، ففي عمله كرئيس لدائرة الأساقفة، أظهر اهتمامًا خاصًا باختيار أساقفة ليس فقط من أصحاب المعرفة الدينية، ولكن أيضًا من أولئك الذين يتفهمون جيدًا واقع الناس ويعيشون معهم في جو من الصدق والتواضع، بعيدًا عن الانفصال الذي يشعر به البعض في الكنيسة عن قضايا الواقع والمجتمع.
ولعل هذه الرؤية العميقة في التعيين هي ما جعل الكاردينال بريفوست خيارًا طبيعيًا في نظر مجمع الكرادلة لاختيار خليفة للبابا فرنسيس، فقد أظهر بريفوست، منذ بداية خدمته في الكنيسة، اهتمامًا خاصًا بالفئات المهمشة في المجتمع، وكان دائمًا يسعى لأن يكون صوتًا لهم داخل الأروقة الكنسية، وهذه الخلفية الروحية والإنسانية التي تميز بها جعلت اسمه يبرز في المجمع الكنسي كخيار جدير بالثقة.
صحيح أن اسمه لم يكن ضمن المرشحين الأكثر تداولًا في الإعلام، إلا أن قدرته على إحداث التغيير بطرق هادئة ومؤثرة جعلته في النهاية يكسب تأييدًا واسعًا، فكان بريفوست، في جوهره، يمثل تيارًا إنسانيًا داخل الفاتيكان، قائمًا على قيم التواضع، والعمل الصامت المخلص الذي لا يسعى للأضواء، بل للمساهمة الجادة في بناء كنيسة أكثر قربًا من الناس.