إفريقيا في مرمى الأزمات.. عنف وقمع ونزاعات مسلحة وسط صمت دولي قاتل
حقوق غائبة عن القارة السمراء
في ظل انتهاكات جسيمة تطول الحقوق والحريات، وأزمات غذائية متفاقمة، تواصل قارة إفريقيا، ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان والغنية بالموارد الطبيعية، مسيرتها في طريق محفوف بالمخاطر والكوارث الإنسانية، بينما يخيّم صمت دولي مطبق على ما يجري.
ويؤكد خبراء في شؤون النزاعات وحقوق الإنسان، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذه الأوضاع الكارثية تمثل جرس إنذار يجب الإنصات إليه بسرعة، مطالبين بوقف فوري للنزاعات.
وعبّروا عن أسفهم إزاء حالة "النسيان الدولي" التي تعيشها إفريقيا، داعين إلى تحرك داخلي إفريقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومنددين بما وصفوه بـ"جريمة الصمت الدولي تحت ذرائع المصالح السياسية والاقتصادية".
معاناة المدنيين
أشار التقرير السنوي الصادر عن منظمة العفو الدولية حول حالة حقوق الإنسان إلى أن النزاعات المسلحة في إفريقيا خلّفت معاناة هائلة للمدنيين، في وقت بقيت فيه الاستجابة الدولية والإقليمية ضعيفة إلى حد مأساوي، ما جعل المدنيين يشعرون بأنهم تُركوا لمصيرهم.
وبحسب التقرير الذي يغطي أحداث عام 2024، فإن الحق في الحياة لم يكن مصانًا، إذ وثقت تقارير عديدة قيام القوات الحكومية والجماعات المسلحة بعمليات قتل خارج نطاق القانون في عدة دول، منها إثيوبيا، وبوركينا فاسو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان، والسودان، والصومال، والكاميرون، ومالي، وموزمبيق، والنيجر ونيجيريا.
ففي بوركينا فاسو وحدها، قُتل ما لا يقل عن 223 مدنيًا، بينهم 56 طفلًا، على يد الجيش في قريتي "سورو" و"نودين" في فبراير، بينما سقط مئات المدنيين ضحايا في اشتباكات أخرى خلال مايو، وفي إثيوبيا شهدت بلدة "ميراوي" اشتباكات بين الحكومة وميليشيات محلية أسفرت عن اعتقال وإعدام عشرات المدنيين.
وفي مالي، قُتل 27 مدنيًا، بينهم 18 طفلًا، في مارس نتيجة غارات جوية نفذها الجيش باستخدام طائرات مسيّرة.. وفي النيجر، أودت غارة مماثلة بحياة 50 مدنيًا بقرية "تياوا"، بينما شهدت ولاية كادونا في نيجيريا مقتل 23 شخصًا جراء غارات الجيش.
أما الصومال فشهد مقتل 23 مدنيًا، بينهم 14 طفلًا، في هجمتين جويتين باستخدام طائرات مسيّرة تركية الصنع. كما لقي نحو 200 شخص حتفهم في بلدة "بارسالوغو" ببوركينا فاسو على يد جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، بينما شهدت الكونغو الديمقراطية مقتل أكثر من 200 مدني في اشتباكات بين القوات الحكومية ومتمردي حركة 23 مارس.
وفي السودان، واصلت قوات الدعم السريع هجماتها ضد المدنيين، ومنها ما جرى في ولاية الجزيرة، حيث قتل 124 مدنيًا في أسبوع واحد.. ووفق بعثة الأمم المتحدة في الصومال، كانت حركة الشباب مسؤولة عن 65% من الإصابات بين المدنيين خلال الفترة بين يناير وسبتمبر 2024.
أنماط العنف
وصف التقرير الحقوقي الوضع في إفريقيا بأنه يشهد "تزايدًا مقلقًا" في العنف المرتبط بالنزاع، لا سيما العنف القائم على النوع الاجتماعي.
ففي جمهورية إفريقيا الوسطى، تم الإبلاغ عن أكثر من 11 ألف حالة عنف ضد النساء خلال النصف الأول من عام 2024، أما في الكونغو الديمقراطية فقد تضاعفت الحالات المبلغ عنها مقارنة بالعام السابق، وفي السودان وثقت بعثة أممية ارتكاب قوات الدعم السريع أعمال عنف جنسي ممنهجة ضد النساء والفتيات، خصوصًا في دارفور وولاية الجزيرة.
وبالنسبة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فهي ليست في حال أفضل، لأن ملايين من سكان القارة يواجهون شبح الجوع بسبب الجفاف والنزاعات.
وفي الجنوب الإفريقي، تسببت أسوأ موجة جفاف منذ قرن في تدمير المحاصيل ونفوق الماشية، ما دفع مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي للإعلان عن حاجة 17% من سكان المنطقة -نحو 11.5 مليون شخص-لمساعدات إنسانية عاجلة.
وفي وسط إفريقيا، يعاني أكثر من 2.5 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، بينما يرتفع العدد في الصومال إلى 4 ملايين، وفي جنوب السودان إلى 7.1 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد السكان.
كما أدت النزاعات إلى تدمير مئات المدارس، ما حرم ملايين الأطفال من التعليم، ففي السودان وحده، يوجد أكثر من 17 مليون طفل خارج المدارس، وأعلنت "يونيسف" إغلاق أكثر من 13 ألف مدرسة في غرب ووسط إفريقيا، وفي بوركينا فاسو، أُغلقت أكثر من 5,300 مدرسة، ما أثر على نحو مليون طفل.
تقييد الحريات السياسية
سياسيًا، تزايدت القيود على حرية التعبير وتجمعات المعارضة، فشهدت دول مثل السنغال وغينيا وكينيا ونيجيريا وموزمبيق عمليات قمع عنيفة للتظاهرات، شملت القتل والاعتقال الجماعي.
ففي السنغال، قُتل أربعة متظاهرين في فبراير أثناء الاحتجاج على تأجيل الانتخابات الرئاسية. وفي كينيا، وثّقت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان مقتل 60 شخصًا خلال تظاهرات ضد مشروع قانون مالي، واعتقال أكثر من 600 شخص بين يونيو وأغسطس.
أما في موزمبيق، فأسفرت تظاهرات ما بعد الانتخابات عن مقتل 277 شخصًا، بينهم أطفال.. وفي نيجيريا، قُتل 24 شخصًا على الأقل في احتجاجات ضد سوء الإدارة.
كما تراجعت حرية الإعلام؛ ففي الكاميرون حظرت السلطات أي مناقشات حول الحالة الصحية للرئيس بول بيا البالغ 91 عامًا، وفي السنغال، اعتُقل السياسي أحمد سوزان كامارات بتهمة الإساءة لرئيس الدولة.
وقُطعت خدمات الاتصالات والإنترنت في دول عدة، من بينها إثيوبيا، والسودان، وكينيا، وموزمبيق، ما فاقم من صعوبة إيصال المساعدات للمتضررين.
صمت دولي مقلق
تواصل الانتهاكات الجسيمة للحقوق والحريات اجتياح القارة الإفريقية، وسط أزمات إنسانية متفاقمة وتدهور بالغ في الأوضاع المعيشية، في ظل صمت دولي مثير للقلق.
ورغم أن إفريقيا تُعد ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، وتزخر بثروات طبيعية هائلة، فإنها تمضي في مسار محفوف بالمخاطر والكوارث، دون استجابة دولية توازي حجم المأساة.
وفي تصريحات لـ"جسور بوست"، حذّر خبراء في شؤون النزاعات وحقوق الإنسان من استمرار تجاهل هذه الأوضاع الكارثية، معتبرين أن القارة الإفريقية باتت "في طي النسيان"، مشددين على ضرورة التحرك العاجل سواء من داخل القارة أو عبر المجتمع الدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تعرّض صحفيون في عدة دول إفريقية مثل أنغولا وتشاد وتنزانيا وتوغو وزيمبابوي وكينيا ونيجيريا لتهديدات واعتداءات جسدية واعتقالات تعسفية، وأسفر ذلك عن مقتل 8 صحفيين في القارة، بينهم 5 في السودان وحده.
كما أوقفت السلطات الإثيوبية بشكل تعسفي تراخيص خمس منظمات وطنية لحقوق الإنسان، فيما علّقت حكومة غينيا تجديد تراخيص المنظمات غير الحكومية لمدة 4 أشهر بذريعة "تقييم الأنشطة"، بحسب التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية.
أزمة نزوح داخلي
وُضع السودان في صدارة الدول المتضررة من النزوح، حيث يشهد أكبر أزمة نزوح على مستوى العالم، إذ تجاوز عدد النازحين 11 مليون شخص، بينهم 8.6 مليون نزحوا منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023.
وتشهد دول أخرى أعدادًا صادمة من النازحين داخليًا مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية (7.3 مليون)، وبوركينا فاسو وجنوب السودان (مليونان لكل منهما)، والصومال (552 ألفًا)، وجمهورية إفريقيا الوسطى (455 ألفًا)، ومالي (331 ألفًا)، في ظل أوضاع إنسانية متردية داخل المخيمات.
وأشار التقرير إلى استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في عدة دول، ففي إسواتيني لم تفتح السلطات أي تحقيقات بشأن عمليات القتل خارج القانون منذ عام 2021، بما في ذلك اغتيال محامي حقوق الإنسان ثولاني ماسيكو عام 2023، وفي إثيوبيا، تواصل الحكومة إنكار الجرائم الموثقة من قبل منظمات حقوقية، أما في السنغال فقد أُوقفَت الملاحقات القضائية المرتبطة بمقتل 65 متظاهرًا ومارًّا بين مارس 2021 وفبراير 2024، بموجب قانون عفو أُقِر في مارس 2024.
دعوات لإنهاء النزاعات
بدوره، قال الحقوقي المتخصص في شؤون النزاعات بإفريقيا، صالح عثمان، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن تقرير العفو الدولية يعكس جزءًا من الواقع المتدهور في إفريقيا، مشيرًا إلى أن الوضع في السودان ليس بمعزل عن هذا التردي.
وأضاف أن هذه الانتهاكات تمثل "جرس إنذار كبيرًا"، داعيًا إلى تحرك جاد من المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية والأخلاقية.
واعتبر عثمان أن المؤسسات الدولية الكبرى، مثل مجلس الأمن، تُخضع مواقفها لمصالح الدول العظمى، ولا تولي اهتمامًا حقيقيًا للحقوق والحريات في إفريقيا والسودان، قائلًا: "الحقوق الإفريقية تُترك عمدًا للنسيان، كما أن الاتحاد الإفريقي لم يعد يعتبر قضايا حقوق الإنسان أولوية".
وشدد على ضرورة تحمّل المسؤولية ووقف النزاعات وضمان حرية التعبير، وإنهاء دعم الأنظمة القمعية، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، مؤكدًا أن استمرار هذا الصمت الدولي يستدعي حلولًا داخلية من الشعوب الإفريقية نفسها.
جريمة الصمت الدولي
من جهتها، استنكرت الحقوقية السودانية سُليمى إسحاق، مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة (هيئة حكومية) في تصريح لـ"جسور بوست"، صمت المجتمع الدولي تجاه ما يحدث من انتهاكات مروّعة في السودان وإفريقيا، واصفة هذا الموقف بأنه "جريمة متعمدة" تغلّفها شعارات المصالح.
وأكدت سليمي أن العديد من الدول الغربية التي تتباهى بدعمها لحقوق الإنسان "فشلت في تقديم أي دعم حقيقي" لقضايا الحقوق في القارة الإفريقية، مستشهدة بما ترتكبه قوات الدعم السريع في السودان من فظائع دون أي موقف دولي رادع.
وأشارت إلى أن حجم الانتهاكات في السودان وإفريقيا أصبح "يفوق طاقة البشر على الاستيعاب"، ووصفت الوضع بأنه "كارثة إنسانية مأساوية" تتطلب تحركًا عاجلًا وفعّالًا على المستويات كافة.