20 مليون طفل مُهمّش.. لماذا لا يزال التعليم حلماً مؤجلاً لذوي الإعاقة في العالم العربي؟

من القاهرة إلى صنعاء.. أطفال منسيون خلف أسوار المدارس

20 مليون طفل مُهمّش.. لماذا لا يزال التعليم حلماً مؤجلاً لذوي الإعاقة في العالم العربي؟

 

بين فصولٍ مغلقة ووعودٍ مؤجلة، يُحرم ملايين الأطفال من ذوي الإعاقة في العالم العربي واحداً من أبسط حقوقهم وهو الحق في التعليم، وفي وقتٍ تتفاخر فيه بعض الحكومات بسنّ التشريعات تشير الأرقام الصادرة عن "اليونيسف" إلى أن أكثر من 20 مليون طفل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعانون من إعاقات تعوق دمجهم في التعليم والمجتمع.

ويواجه طفل من بين كل سبعة مصيرًا غير مرئي خلف جدران البيروقراطية، في معركة تبدأ من غياب الفصول وتصل إلى رفض المدارس استقبالهم، من مدرسة صمّ في مأرب تواجه خطر الإغلاق، إلى أم مصرية تبحث عن مكان لطفلتها المتأخرة عقليًا، تتكرّر المأساة بتفاصيل مختلفة.

فهل تكفي القوانين وحدها؟ أم أن التغيير الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالمشكلة ورفع الأصوات لأجل جيلٍ منسي؟

في اليمن، حيث الحرب تلتهم الأخضر واليابس، تضررت المدارس ونزح الطلاب وتوقفت رواتب المعلمين. في القلب من هذه الأزمة المتفاقمة، يرزح الطلاب ذوو الإعاقة في زمن الحرب تحت وطأة الإهمال والإنكار والتجاهل، يخوضون معركتهم الخاصة للحصول على حقهم في المساواة والتعليم".

"في ثلاث مرات سابقة اضطررنا إلى تسريح الطلاب بعد وصولهم إلى الصف السادس، والسبب أننا لا نملك عدد فصول يكفي لـ130 طفلاً أصم بمختلف أعمارهم.. نعم يتجرع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ويلات الحرب مثل باقي اليمنيين".. هكذا يقول علي القطريفي، مدرس لغة عربية بإحدى مدارس الصم والبكم في محافظة مأرب باليمن.

يعرف القطريفي نفسه خلال حديثه لـ“جسور بوست": "أنا معلم لغة عربية من ذوي الإعاقة بـ"الصمم"، لدي مع طلابي قاسم مشترك قوي وغير قابل للكسر –في إشارة إلى كونه أصم- أعرف ما يعانونه في سبيل الحصول على أبسط حقوقهم في الحياة وهو التعليم، خاصة في ظل الحرب التي مس دمارها كل شبر في بلادنا".

يضيف القطريفي: "لدينا أطفال صم فقط في مدرستنا يبلغ عددهم ما يقارب من 130 طفلاً في مراحل تعليمية مختلفة من سن 7 إلى 15 أو 16 سنة، المدرسة صغيرة للغاية وليست مجهزة بشكل كبير، فهي تحتاج إلى مزيد من الفصول لتقدم خدماتها لأكبر عدد ممكن من الطلاب، وإلا سنضطر إلى تسريح دفعات جديدة من الطلاب لضم طلاب جدد من الصم".

تشير البيانات الإحصائية الحديثة، المستندة إلى تعدادات ودراسات استقصائية في عدة دول عربية، إلى وجود فجوات كبيرة ومستمرة في معدلات محو الأمية والالتحاق بالمدارس بين الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم.

على الصعيد العالمي، يعيش نحو 20.9 مليون طفل من ذوي الإعاقة في هذه المنطقة من أصل 240 مليون طفل من ذوي الإعاقة حول العالم، تتنوع وتختلف الإعاقة في أشكالها وتوزيعها الجغرافي.

تهميش ومعاناة متفاقمة

تؤكد الناشطة الحقوقية اليمنية نورا الجروي لـ"جسور بوست" أن الأشخاص ذوي الإعاقة هم الأكثر تضررًا وتهميشًا في النزاع اليمني الكارثي، حيث يواجهون صعوبات جمة في نيل حقوقهم والمشاركة الفعالة، رغم الدعوات المتزايدة لدمجهم في البرامج الإنسانية، ومع ذلك تتضاعف معاناتهم بسبب تعطل الصحة والتعليم وعجز المساعدات عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وتوضح الجروي أن ذوي الإعاقة يواجهون صعوبات في الحصول على الخدمات الأساسية نتيجة لتأخر التمويل، ما يؤثر على الرعاية والتعليم والعمل، خاصة للنازحين الذين يعانون ظروفًا معيشية قاسية وعزلة.

وتضيف: "توقف العديد من الأطفال ذوي الإعاقة عن الدراسة لتأخر الدعم وإغلاق المدارس وعدم ملاءمة التدريس، مما يزيد الضغط النفسي، يضاعف الفقر معاناتهم مع صعوبة تحمل التكاليف وتدهور الاقتصاد. لم تلتزم الحكومة اليمنية بالتزاماتها تجاههم، وتوقف الدعم الوطني، والوضع في مناطق الحوثيين أسوأ".

 وتطالب الجروي المنظمات الحقوقية والإنسانية بزيادة المساعدات وتحسين التنسيق وإشراك ذوي الإعاقة في جميع مراحل العمل الإنساني لضمان حقوقهم وعدم تهميشهم، وتوفير بيئات دامجة تلبي احتياجاتهم الخاصة.

عقبات الدمج تبدأ من "البامبرز"

في إحدى ضواحي العاصمة المصرية "القاهرة"، تقف السيدة أحلام، أم لطفلة تبلغ من العمر 9 سنوات، تعاني من تأخر عقلي، أمام باب إحدى المدارس الحكومية التي رفضت استقبال ابنتها: "حالة بنتك صعبة واحنا مش هنقدر نتعامل معاها". 

بمزيد من الدهشة تتساءل أحلام في حديثها لـ"جسور بوست": "طيب أنا أروح بيها فين؟ البنت بتكبر ولسة عندي أمل في ربنا أن حالتها تتعدل، عارفة أنها مش هتخف خالص لكن يبقى عندها أساسيات الحياة، وكمان مش عايزاها تبقى منعزلة; تروح المدرسة تتعرف وتشوف ناس جديدة". 

لا تتوفر إحصاءات محددة حول عدد الأطفال ذوي الإعاقة في الفئة العمرية المدرسية في مصر. ومع ذلك، تشير دراسة نُشرت في مجلة BMC Public Health عام 2023 إلى أن نسبة انتشار الإعاقة بين الأطفال المصريين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عامًا تبلغ نحو 6.3%. تم إجراء هذه الدراسة على عينة واسعة شملت أكثر من 20,000 طفل في ثماني محافظات مصرية.

تكمل أحلام: "قالولي هنا في المدرسة مش هنقدر نتعامل مع حالتها، هي لسه بتستخدم البامبرز، ومفيش مدرسين يقدروا يتعاملوا مع حالتها، نصحوني أوديها مركز خاص، لكن ده فوق إمكانياتي المادية".

حاولت أحلام لعدة أشهر البحث عن مركز قريب، لكن أغلبها يتطلب رسومًا باهظة، ناهيك عن بعدها عن حيزها السكني مما يعني مزيد من تكبد تكاليف الانتقال: "بنتي عندها تأخر عقلي بس هي إنسانة ومن حقها عليا إني أعلمها، نسبة ذكائها 50% يعني ممكن مع التعليم والتدريب تكون أحسن وتقدر تعتمد على نفسها". 

تشير بيانات وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني إلى أن عدد الطلاب ذوي الإعاقة الملتحقين بنظام الدمج التعليمي في العام الدراسي 2023/ 2024 بلغ نحو 159,825 طالبًا وطالبة، بالإضافة إلى نحو 46,000 طالب وطالبة في فصول التربية الخاصة، منهم 10,000 طالب من فئة الصم.

عمان تسجل أعلى فجوة في معدلات الحضور

تسجل عمان أعلى فجوة في معدلات الحضور في المرحلة الابتدائية (5-9 سنوات) بين الأطفال ذوي الإعاقة (37%) وغير المعوقين (88%)، تليها المملكة العربية السعودية ومصر بفجوات كبيرة أيضًا.

لدى عمان أكبر فجوة في معدلات الحضور المدرسي بين الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 5 و9 سنوات من ذوي الإعاقة وغير ذوي الإعاقة (الفتيات ذوات الإعاقة 38ٌ%، والفتيات غير المعوقات 88ٌ%)، تليها مصر (الفتيات ذوات الإعاقة 47ٌ%، والفتيات غير المعوقات 92ٌ%)، والمملكة العربية السعودية (الفتيات ذوات الإعاقة 44ٌ%، والفتيات غير المعاقات 87ٌ%). 

وفي هذا الإطار، تؤكد الدكتورة رهام فهمي، استشاري التربية الخاصة، والمدير التنفيذي بمركز البناء البشري في "العاصمة مسقط"، لـ"جسور بوست" على أنه في العديد من الدول العربية، لا تتوفر بيانات دقيقة حول معدلات التسرب بين الطلاب ذوي الإعاقة، مما يصعّب تقييم حجم المشكلة بدقة، لذا نحن بحاجة إلى الانتقال من مجرد تبني الشعارات إلى اتخاذ خطوات عملية وملموسة تترجم الالتزامات القانونية إلى واقع يومي يعيشه هؤلاء الطلاب وعائلاتهم.

وعددت الدكتورة رهام التحديات التي يواجهها الطلاب ذوي الإعاقة، على رأسها نقص الوعي المجتمعي، وغياب الدعم الكافي في بعض المؤسسات التعليمية من حيث الكوادر المؤهلة أو الوسائل التعليمية المناسبة. 

وتابعت: "كما يعانون أحياناً من صعوبات في التواصل والاندماج مع زملائهم، وهو ما ينعكس على ثقتهم بأنفسهم، بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم تكييف المناهج والاختبارات بما يتناسب مع قدراتهم".

واختتمت المدير التنفيذي بمركز البناء البشري حديثها مؤكدة ضرورة وجود رؤية شاملة وتكاملية تشمل الجوانب التشريعية، التعليمية، المجتمعية، والتقنية، والتي يجب أن تلبي احتياجات ذوي الاحتياجات الخاصة بداية من الحق في التعليم الدامج لكل طفل، وتهيئة البيئة التعليمية، والعمل على توفير وسائل تعليمية مناسبة، فضلا عن ضرورة تفعيل القوانين والاتفاقات التي وقعتها أغلب الدول العربية.

ما بين التشريعات والشعارات

تسعى الدول العربية بشكل متزايد إلى إدماج حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ضمن أطرها التشريعية، لذلك في الأردن ينص قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2017 في مادته الرابعة والعشرين على إلزام المدارس بتهيئة بيئة دامجة، وتوفير وسائل الإتاحة والمناهج المناسبة، وبالمثل تبنّت مصر قانون رقم 10 لسنة 2018، والذي يكفل للأشخاص ذوي الإعاقة حق التعليم المجاني، ويُلزم المؤسسات التعليمية بتوفير الأدوات والمناهج الداعمة.

لكن وعلى الرغم من هذا الإطار القانوني المتقدم، لا تزال الفجوة بين النصوص والتطبيق الفعلي واسعة.

فقد رصد تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان في الأردن لعام 2021 انخفاض نسب التحاق الأطفال ذوي الإعاقة بالتعليم، نتيجة لعدم تأهيل المدارس بشكل كافٍ لاستقبالهم. 

وفي مصر، أكّد تقرير مؤسسة الحق في التعليم (2022) أن أغلب المدارس الحكومية تفتقر إلى البنية التحتية الملائمة، وتعاني من نقص واضح في المعلمين المؤهَّلين للتعامل مع هذه الفئة.

أما في اليمن فإن الأزمة تتعدى غياب التشريعات لتصل إلى مستوى تهديد مباشر لحق الحياة والتعليم، في ظل النزاع المسلح وتدهور الخدمات الأساسية.

وتعلّق المحامية الحقوقية الأردنية هالة عاهد في حديثها لـ"جسور بوست" على هذا الواقع بقولها إن التشريعات القائمة، رغم أهميتها، لا تزال حبرًا على ورق في كثير من الأحيان. وتُشدّد على أن مبدأ المساواة وعدم التمييز لا يزال بعيد المنال، في ظل غياب البنية التحتية الدامجة، وافتقار المدارس إلى التسهيلات والمناهج والمعلمين المؤهّلين للتعامل مع الاحتياجات المتنوعة للطلاب ذوي الإعاقة.

وتؤكد عاهد أن بعض المدارس لا تزال ترفض استقبال هؤلاء الطلاب، ما يُفاقم التحديات ويُفرغ القوانين من مضمونها، داعية إلى تفعيل الاتفاقيات الدولية وتوفير الموارد الضرورية لتأهيل البيئة التعليمية، وتدريب الكوادر، وتكييف المناهج، لضمان ترجمة الحقوق القانونية إلى واقع ملموس.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية