"فورين بوليسي": انتخاب القضاة في المكسيك خطوة تهدد استقلال القضاء
"فورين بوليسي": انتخاب القضاة في المكسيك خطوة تهدد استقلال القضاء
تبدأ السلطات المكسيكية تنفيذ إصلاح قضائي مثير للجدل سيحول البلاد إلى أول دولة في العالم تُنتخب فيها جميع المناصب القضائية عبر الاقتراع الشعبي العام.
ووفقاً لتحليل أجرته مجلة "فورين بوليسي"، ونشرته الجمعة، تسير المكسيك نحو تجربة غير مسبوقة في تاريخ النظم القضائية الحديثة، حيث سيشارك المواطنون في انتخابات تشمل القضاة الفيدراليين والمحليين.
وافق الكونغرس المكسيكي في سبتمبر من العام الماضي على تعديل دستوري بدعم من الرئيس السابق أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، يمنح الناخبين حق اختيار القضاة عبر صناديق الاقتراع، وهو نهج يخالف المعايير الدولية المعتمدة لضمان استقلال القضاء.
إطلاق المرحلة الأولى
تُجرى المرحلة الأولى من هذه الانتخابات في الأول من يونيو الجاري، وتشمل اختيار 881 منصبًا قضائيًا فيدراليًا، منها قضاة المحكمة العليا وقضاة الانتخابات، إلى جانب نحو 2000 منصب محلي.
أما بقية المناصب، والتي تبلغ 4000 منصب قضائي، فسيُنتخب شاغلوها في جولة ثانية عام 2027، يمثل هذا التحول القضائي أعمق تعديل في الحياة السياسية المكسيكية منذ عقود.
واستغل الرئيس السابق لوبيز أوبرادور الفراغ المؤسسي بين انتهاء عمل الكونغرس القديم وتنصيب الرئيسة المنتخبة كلوديا شينباوم في أكتوبر الماضي، لتمرير التعديلات مستفيدًا من أغلبية مؤقتة.
شعارات مناهضة للنيوليبرالية
هاجم الرئيس السابق لوبيز أوبرادور بشدة ما وصفه بسيطرة "الأوليغارشية النيوليبرالية" على القضاء، مؤكدًا أن الشركات الأجنبية نهبت المكسيك بمباركة نظام قضائي خاضع. تعهد بإصلاح شامل للقضاء، لكنّه لم يُخفِ عداءه تجاه السلطة القضائية، متسائلًا علنًا عن استمرار "القضاة الفاسدين" في حماية مصالح الأجانب.
ورغم حاجة البلاد إلى إصلاح قضائي حقيقي بسبب تفشي الفساد والإفلات من العقاب، يشكك كثيرون في أن انتخاب القضاة يمثل الحل الأمثل.
ويخشى المنتقدون من أن يؤدي النظام الجديد إلى ترسيخ نفوذ حزب مورينا الحاكم داخل السلطة القضائية، وتحويلها إلى أداة سياسية بدلاً من مؤسسة مستقلة لضمان العدالة.
تحذيرات حقوقية دولية
أيدت كلوديا شينباوم، الرئيسة المنتخبة وخليفة لوبيز أوبرادور، الإصلاح الجديد، معتبرة أنه "سيجعل المكسيك الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم".
وفي المقابل، أعربت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان عن "قلقها العميق" من التأثير السلبي المحتمل على الحق في الوصول إلى العدالة واستقلالية القضاء وسيادة القانون.
وانتقدت اللجنة غياب الشفافية في آلية اختيار المرشحين، مؤكدة أن ذلك يفتح الباب أمام تدخل سياسي مباشر في مؤسسة يفترض أن تكون محايدة ومستقلة.
وشكلت لجان تابعة لحزب مورينا قوائم المرشحين على المستويين الفيدرالي والمحلي دون اتباع معايير واضحة أو شفافة، بحسب ما كشفه كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية ديفيد مورا، وأوضح أن هذه اللجان اختارت أسماء من بين أكثر من 50 ألف متقدم، إلا أن الدعم السياسي غير الرسمي أصبح العامل الحاسم في الترشيح.
في بعض الولايات، ظهرت أسماء مرشحين وحيدين لكل منصب، ما ألغى فعليًا مبدأ التنافس، في دورانغو وأغواسكاليينتس، وافقت اللجان على مرشح واحد لكل منصب، بينما في كواهويلا يتنافس 134 مرشحًا على 106 مناصب، بينهم 82 مرشحًا بالتزكية، وأعلنت 12 ولاية من أصل 19 عن نقص حاد في التمويل الفيدرالي لتنظيم الانتخابات.
قلق داخلي وخارجي
اتفق دبلوماسيون ونقابات محامين ومنظمات مدنية على أن هذه الانتخابات لن تفرز جهازًا قضائيًا مستقلًا، كتب السفير الأمريكي السابق لدى المكسيك كين سالازار محذرًا: "الانتخاب المباشر للقضاة يشكل تهديدًا خطِرًا للديمقراطية في المكسيك".
وبالنظر إلى تعقيد الإجراءات الانتخابية، يتوقع انخفاض معدلات المشاركة، على سبيل المثال، سيُطلب من الناخبين اختيار 9 قضاة من بين 64 مرشحًا للمحكمة العليا، في انتخابات يتنافس فيها 3422 مرشحًا على 881 منصبًا فيدراليًا.
وأظهرت استطلاعات الرأي أن 77% من الناخبين لا يعرفون أيًا من المرشحين، فيما يتوقع المعهد الوطني للانتخابات مشاركة لا تتجاوز 15%.
واستبدلت السلطات الدوائر الانتخابية التشريعية المعتمدة بـ60 دائرة "قضائية" جديدة، رسمها المعهد الوطني للانتخابات، دون مراعاة التوزيع السكاني العادل، ففي العاصمة مكسيكو سيتي، التي تحكمها حكومة مورينا، ستنتخب كل دائرة تضم 706 آلاف ناخب 15 قاضيًا، في حين أنه في ولاية مكسيكو المكتظة، ستنتخب دوائر يفوق عدد سكانها 4 ملايين نسمة 18 قاضيًا فقط.
ولأول مرة منذ منتصف التسعينيات، لن يتم فرز الأصوات في مراكز الاقتراع تحت إشراف المواطنين، بل سيتم نقلها إلى مكاتب المعهد الوطني للانتخابات لفرزها خلف الأبواب المغلقة، ما يزيد من احتمال وقوع تلاعب.
تورط مرشحين في قضايا
اتهمت منظمات مدنية 18 مرشحًا بالارتباط بجماعات إجرامية أو بوجود سوابق جنائية، من أبرز هؤلاء محامٍ سابق لزعيم تجارة المخدرات خواكين "إل تشابو" غوزمان، يترشح في ولاية تشيهواهوا، وآخر أُدين في تكساس عام 2015 بتهريب الميثامفيتامين، ويترشح اليوم لمنصب قاضٍ في دورانغو، كما يترشح قضاة سابقون اتُّهموا بالتحرش الجنسي والفساد.
وأنشأ الإصلاح الجديد محكمة للانضباط القضائي مؤلفة من خمسة أعضاء يُنتخبون لست سنوات، تملك المحكمة صلاحية التحقيق مع القضاة، وإصدار عقوبات تصل إلى العزل والغرامات، وإحالة القضايا الجنائية إلى النيابة العامة.
وتُعد أحكام هذه المحكمة نهائية وغير قابلة للاستئناف، ما يمنحها نفوذًا كبيرًا قد يؤدي إلى تكميم القضاة ودفعهم للتماهي مع توجّهات حزب مورينا.
ومنذ المصادقة على هذا الإصلاح، بدأت آثار سلبية تطول الاستقرار الاقتصادي في المكسيك، وأدى تآكل استقلال القضاء إلى تراجع ثقة المستثمرين الأجانب وتخوف الشركات من غياب بيئة قانونية آمنة، ما قد ينعكس على النمو الاقتصادي والفرص التنموية في البلاد.