تعليق طلبات اللجوء السورية يكشف تراجع أوروبا عن التزامات الحماية الدولية
تعليق طلبات اللجوء السورية يكشف تراجع أوروبا عن التزامات الحماية الدولية
في تحول غير مسبوق يعكس تبدل أولويات الحماية الدولية في أوروبا، كشفت صحيفة "فايننشيال تايمز" في تقرير نُشر، اليوم الخميس، عن تراجع كبير في عدد طلبات اللجوء المقدمة من السوريين، بعد إعلان سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذا التراجع رافقه تعليق صامت لمعالجة تلك الطلبات في عدد من الدول الأوروبية، في خطوة أثارت تساؤلات حقوقية جدية حول مصير مبدأ الحماية الدولية في ظل تغييرات سياسية غير مستقرة في سوريا، وبينما تتصدر إسبانيا قائمة الدول الأوروبية المستقبِلة لطالبي اللجوء، تُتهم عدة دول، من بينها ألمانيا والنمسا والسويد، بالتخلي عن التزاماتها تجاه أكثر الفئات ضعفًا، في مشهد يعكس تحولًا مقلقًا في سياسة اللجوء الأوروبية.
وبحسب التقرير غير المنشور الصادر عن وكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي، والذي اطلعت عليه الصحيفة البريطانية، فإن عدد طلبات اللجوء المُسجَّلة في الاتحاد الأوروبي خلال مايو 2025 بلغ نحو 64 ألف طلب، بانخفاض بنسبة 25% مقارنة بالشهر ذاته من العام الماضي، وانخفض عدد الطلبات السورية من 16 ألفًا في أكتوبر 2024 إلى 3100 فقط في مايو.
وتشير البيانات إلى أن ألمانيا، الوجهة التقليدية للأغلبية السورية، سجّلت 9900 طلب لجوء فقط في مايو، مقابل 18700 طلب في نفس الشهر من 2024، في المقابل، تصدّرت إسبانيا القائمة الأوروبية بـ12800 طلب، أغلبها من فنزويليين فرّوا من الأزمة الاقتصادية والسياسية في بلادهم.
تغير في سياسات اللجوء
يُعد هذا التراجع اللافت في أعداد الطلبات السورية جزءًا من تحوّل أوسع في سياسات اللجوء الأوروبية بعد سقوط الأسد، فوفقًا لتقرير صحيفة "الغارديان" البريطانية، علّقت دولٌ أوروبية عدة -منها المملكة المتحدة وألمانيا والسويد وفرنسا- دراسة طلبات اللجوء المقدمة من السوريين، رغم استمرار قبول تقديم الطلبات شكليًا.
في بريطانيا، أكدت وزارة الداخلية تعليق القرارات المتعلقة بطلبات اللجوء السورية ريثما يتم تقييم الوضع الأمني والسياسي في سوريا، وصرح متحدث رسمي بأن مراجعة التوجيهات الوطنية مستمرة استجابةً للتطورات.
وأشارت "الغارديان" إلى أن هذه الإجراءات تلت سيطرة قوات المعارضة على العاصمة دمشق وفرار الأسد إلى روسيا بيوم واحد فقط.
تجميد قرارات اللجوء
أما ألمانيا، التي استقبلت نحو مليون سوري منذ اندلاع الحرب، فقد جمّدت بشكل رسمي قرارات اللجوء، وفق بيان صادر عن وزيرة الداخلية نانسي فايسر، وجاء في البيان أن "نهاية طغيان الأسد الوحشي تمثل لحظة أمل لكثير من السوريين، لكنها لا تعني أن الوضع بات آمنًا بما يكفي للعودة"، وأوضحت أن أكثر من 47 ألف طلب لجوء من السوريين ما زال معلقًا.
قابل المواقف الألمانية الرسمية حراك سياسي داخلي، إذ دعا النائب ينس شبان، من الحزب الديمقراطي المسيحي، إلى تنظيم رحلات عودة إلى سوريا وتقديم حوافز مالية تصل إلى 1000 يورو للراغبين في العودة، ما أثار انتقادات من منظمات حقوقية اعتبرت ذلك محاولة للالتفاف على التزامات الحماية الدولية.
وتبنت كل من السويد وفرنسا واليونان الموقف ذاته حيث أعلنت كل من هذه الدول تعليق قرارات اللجوء أو دراسة تنفيذ إجراءات مشابهة، وفي النمسا، ذهبت الحكومة المؤقتة إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أمرت بمراجعة الحالات التي سبق منحها اللجوء، وأعلنت إعداد خطة لإعادة السوريين إلى بلادهم.
جاء ردّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين محذرًا، فقد حث المفوض فيليبو غراندي على "الصبر واليقظة"، مؤكدًا أن التطورات لا تزال غير مستقرة ولا تسمح بالعودة الآمنة والطوعية، وطالب دول الاتحاد الأوروبي بعدم التسرع في اتخاذ إجراءات قد تنتهك حق السوريين في طلب الحماية الدولية.
1000 سوري سحبوا طلباتهم
في قبرص، كشف نائب وزير الهجرة نيكولاس يوانيدس أن أكثر من 1000 سوري سحبوا طلباتهم للجوء، بينما عاد 500 آخرون طوعًا إلى بلادهم، وأشار إلى أن هذه التطورات تأتي بعد تطبيق سياسة أكثر صرامة بالتعاون مع دول الجوار، من بينها لبنان، إلى جانب إجراءات أوروبية لتعزيز الرقابة على الحدود.
وأكدت وكالة الهجرة الأوروبية أن هذا التحول لا يرتبط بتغييرات مباشرة في السياسات الوطنية، بل يعكس التطورات داخل سوريا، ومع ذلك، يرى مراقبون أن قرار تعليق دراسة الطلبات يشكل تراجعًا خطيرًا عن مبدأ عدم الإعادة القسرية، ويهدد البنية القانونية لنظام اللجوء الأوروبي.
في هذا الإطار، قال تقرير لمنظمة "برو آزول" الألمانية المعنية بحقوق اللاجئين إن "وقف إجراءات الحماية دون ضمانات أمنية على الأرض في سوريا يمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي"، وأضاف أن مجرد سقوط النظام لا يعني زوال التهديد أو انتهاء الانتهاكات بحق العائدين، خصوصًا في ظل هيمنة فصائل مسلحة متناحرة، وتردي الوضع الإنساني.
استمرار الاعتقالات والانتهاكات
وتشير تقارير حقوقية إلى استمرار الاعتقالات والانتهاكات بحق العائدين، بما في ذلك حالات اختفاء قسري وتعذيب، وثقتها منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. كما حذرت منظمات سورية من خطورة العودة القسرية، خصوصًا في ظل غياب أي بنية قانونية أو أمنية مستقرة داخل البلاد.
يُذكر أن القانون الدولي، لاسيما اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، تُلزم الدول بعدم إعادة أي شخص إلى بلد يُحتمل أن يتعرض فيه لخطر الاضطهاد، كما ينص القانون الأوروبي على ضرورة دراسة كل طلب لجوء بشكل فردي، مع ضمان الوصول إلى الإجراءات القانونية العادلة.
وفي ضوء ذلك، تبدو السياسات الأوروبية الجديدة، التي تعتمد على التجميد أو الإرجاء الجماعي لطلبات السوريين، متعارضة مع هذه الالتزامات، ويخشى المدافعون عن حقوق اللاجئين من أن تُمهد هذه الإجراءات لموجة ترحيلات جماعية مستقبلية، خصوصًا في حال استمرار الضغط السياسي والشعبي داخل أوروبا لخفض أعداد الوافدين.
ولا تقتصر تداعيات هذه التغيرات على الجانب القانوني والإنساني، بل تمتد إلى إعادة رسم خريطة اللجوء في أوروبا، فبينما تتراجع ألمانيا عن موقعها كحاضنة أولى لطالبي اللجوء، تبرز إسبانيا وإيطاليا وفرنسا كمراكز استقبال جديدة، وإن كان بشكل مؤقت.
لكن تظل الأرقام وحدها غير كافية لتفسير التحول، فبعض المحللين يشيرون إلى أن إسبانيا، على سبيل المثال، تستقبل عدداً أكبر من الفنزويليين، وليس بالضرورة بسبب تراجع استقبال السوريين فقط، بل نتيجة تغيرات جيوسياسية أخرى، منها تشديد الولايات المتحدة لسياسات الهجرة.
لذلك يُعد تعليق طلبات اللجوء السورية في أوروبا بمثابة ناقوس خطر حول مستقبل الحماية الدولية في القارة، وبينما يحتفل بعض الساسة بنهاية "فصل الأسد"، لا تزال الطريق طويلة أمام بناء سلام حقيقي وآمن في سوريا، يضمن عودة كريمة وطوعية لملايين اللاجئين، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.