أوروبا والهجرة.. سياسة تضييق الخناق على الحدود تهدد قيم الاتحاد الإنسانية
أوروبا والهجرة.. سياسة تضييق الخناق على الحدود تهدد قيم الاتحاد الإنسانية
على مدار عقود، ظلت قضية الهجرة واللجوء من أكثر الملفات جدلًا على طاولة الاتحاد الأوروبي، تعكس التوتر بين حماية الأمن القومي والحفاظ على المبادئ الإنسانية التي تأسس عليها التكتل، ومع اعتماد ميثاق الهجرة واللجوء الجديد تسعى بروكسل لتقاسم أعباء اللاجئين وتوحيد آليات التعامل مع التدفقات غير الشرعية، إلا أن هذه السياسات الجديدة، بحسب كثير من الخبراء والمنظمات الحقوقية، لا تنذر بحلول مستدامة، بل تزيد المخاوف بشأن انتهاك حقوق الإنسان وتقويض مبادئ حرية الحركة التي قامت عليها اتفاقية شنغن.
ويهدف الميثاق الجديد لتسريع طرد المهاجرين غير الشرعيين، وتطبيق آلية فحص سريعة لتحديد أهلية طالبي اللجوء، مع إمكانية إعادتهم إلى دول ثالثة آمنة. هذه التدابير، التي ستدخل حيز التنفيذ منتصف 2026، تأتي بعد أن شهدت أوروبا انخفاضًا بنسبة 42% في الدخول غير الشرعي للأشهر التسعة الأولى من 2024، لكن بدلًا من تخفيف السياسات، اختار الاتحاد تشديدها، وسط ضغوط من الأحزاب اليمينية المتطرفة لتعديل قوانين الهجرة.
وفي خطوة أخرى مثيرة للجدل، أطلق الاتحاد الأوروبي في مايو 2025 نظامًا جديدًا لمراقبة دخول وخروج الأجانب إلى منطقة شنغن، يعتمد على بصمات الأصابع وتقنيات التعرف على الوجه، وهذا النظام، الذي من المتوقع أن يغطي جميع المعابر الحدودية بعد فترة انتقالية، يهدف -بحسب المفوضية الأوروبية- لتعزيز الأمن وتقليص الثغرات أمام الهجرة غير الشرعية.
إجراءات حديثة
في 7 يوليو الجاري، أعادت السلطات البولندية فرض رقابة حدودية مؤقتة على حدودها مع ألمانيا وليتوانيا، في خطوة جاءت استجابة لتشديد ألماني سابق على حركة المهاجرين، وشاركت في هذه الإجراءات قوات أمنية كبيرة قوامها نحو 800 شرطي و200 عنصر من قوات الدرك، إضافة إلى 500 جندي من قوات الدفاع الإقليمي.
شملت التدابير إقامة 52 نقطة تفتيش حدودية تُجرى من خلالها عمليات تفتيش عشوائي لسيارات الشحن والحافلات والمسافرين، وأكدت الحكومة البولندية أن هذه الإجراءات لن تؤثر في حركة السفر العادية بين الدول المجاورة، بل تستهدف بشكل أساسي ما وصفته بالمهاجرين غير الشرعيين.
في المقابل، أعلنت ألمانيا أنها ستعيد بعض طالبي اللجوء المرفوضين إلى بولندا، الأمر الذي أدى إلى توتر سياسي متصاعد بين البلدين تخطى حدود الردود الدبلوماسية ليصل إلى اتخاذ إجراءات قنصلية داخلية.
وفي 18 يوليو، عقد وزراء داخلية ست دول أوروبية -هي ألمانيا، فرنسا، بولندا، النمسا، جمهورية التشيك، والدنمارك- اجتماعًا أعلنوا خلاله عن خطة لتشديد سياسات اللجوء، تضمنت إعادة اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية أو إلى دول ثالثة آمنة، ورفع معدلات الترحيل بنسب تراوح بين 20% و30%.
في خطوة عملية مباشرة عقب الاجتماع، شرعت السلطات الألمانية بترحيل 81 طالب لجوء أفغاني، واعتبرت هذه الخطوة جزءًا من مساعي استعادة السيطرة على ملف الهجرة.
وانضمت بلجيكا بدورها إلى موجة التضييق، حيث أعلنت عن خطط لفرض قيود حدودية مؤقتة خلال صيف 2025 للحد من تدفق طالبي اللجوء، وتمثل هذه الخطوة انحرافًا ملحوظًا عن سياسة الحدود المفتوحة التي يعدها اتفاق شنغن من أبرز إنجازات التكامل الأوروبي.
أخطار إنسانية تهدد اللاجئين
ورغم تأكيد بروكسل أن هذه الخطوات ضرورية للأمن، يرى المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، أن التركيز على ضبط الحدود لن يمنع الهجرة غير الشرعية، بل قد يدفع اللاجئين، خاصة الفارين من النزاعات، لسلوك طرق أكثر خطورة، ما يزيد من معدلات الوفاة في البحر المتوسط أو على حدود البلقان.
وتحذر تقارير منظمات حقوقية من غياب الضمانات الإنسانية في الميثاق الأوروبي الجديد، خصوصًا مع النص على الاحتجاز لفترات أطول وتسريع الترحيل، ويخشى الخبراء أن يؤدي ذلك لتفاقم معاناة من يهربون من ويلات الحروب، ويحول أوروبا تدريجيًا من ملاذ آمن إلى قلاع مغلقة.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، أعلنت في فبراير 2025 أنها تنظر في ثلاث قضايا ضد بولندا ولاتفيا وليتوانيا بشأن مزاعم الإعادة القسرية لطالبي اللجوء إلى روسيا، وهذه هي المرة الأولى التي تنظر فيها المحكمة في قضية تتعلق بـ"استغلال الهجرة" من قبل دولة.
شنغن تحت التهديد
منطقة شنغن، التي تمثل رمزًا للتكامل الأوروبي، تتيح حرية الحركة لـ425 مليون مواطن أوروبي، إلى جانب المقيمين الشرعيين، إلا أن ضغوط الهجرة دفعت 11 دولة أوروبية -من بينها بولندا، ألمانيا، فرنسا- لتشديد الرقابة على حدودها، وأدى ذلك إلى تعطيل حركة التجارة اليومية التي تقدر بـ3.5 مليون شخص يعبرون الحدود الداخلية يوميًا، وتسبب في خسائر اقتصادية تقدر بمئات الملايين من اليورو؛ نتيجة تأخير الشاحنات والمسافرين.
هذه الإجراءات تهدد بتحويل عمليات التفتيش المؤقتة إلى وضع دائم، وهو ما يعني عمليًا انهيار نظام شنغن الذي يمثل أحد أبرز إنجازات الاتحاد الأوروبي.
حلول مكلفة ومؤقتة
سعيًا للحد من وصول المهاجرين، لجأ الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاقات مع دول خارج حدوده، ففي عام 2016، وقع اتفاقًا مع تركيا لإعادة المهاجرين مقابل مساعدات بقيمة 6 مليارات يورو، وفي عام 2024، وقع التكتل مذكرة تفاهم مع موريتانيا لتخصيص 210 ملايين يورو لمراقبة الحدود البحرية والبرية لمواجهة طريق "الهجرة الأطلسي".
كما قدم الاتحاد مساعدات لمصر بقيمة 110 ملايين يورو لمراقبة الحدود بين عامي 2021 و2024، وقد مولت فرنسا وألمانيا شركات خاصة لتزويد دول شمال إفريقيا بتقنيات مراقبة متقدمة، مثل الرادارات المتحركة والطائرات المسيرة وأنظمة الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه، هذه السياسات الخارجية تُعد بمثابة "الاستعانة بحدود أوروبا الخارجية" لوقف التدفقات قبل وصولها إلى القارة، لكنها تثير تساؤلات حول مدى التزام هذه الدول الشريكة بمعايير حقوق الإنسان في التعامل مع المهاجرين.
لكن هذه السياسات، بحسب خبراء، لا تعالج جذور المشكلة، بل تنقلها إلى دول أخرى غالبًا ما تواجه تحديات اقتصادية وسياسية تفوق قدراتها على استيعاب اللاجئين.
الخطاب المعادي للمهاجرين
تدعي حكومات أوروبية أن الإجراءات المشددة تستهدف إضعاف خطاب اليمين المتطرف، لكن الواقع يبدو مغايرًا، إذ تزيد هذه السياسات من شعبية هذه الأحزاب التي تربط بين ضبط الهجرة وتحقيق الأمن الاقتصادي، وتستغل الأحداث الفردية التي يرتكبها بعض المهاجرين لتأجيج المخاوف، ما يقوض تماسك المجتمعات الأوروبية ويهدد القيم الديمقراطية.
وبحسب تقارير، ارتفع نفوذ أحزاب اليمين في برلمانات عدة دول، فيما تواجه أحزاب الوسط صعوبة في إقناع الناخبين بسياسات متوازنة تحمي الأمن وتحافظ على حقوق اللاجئين.
لا يقتصر أثر تشديد الهجرة على البعد الإنساني والسياسي، بل يمتد إلى سوق العمل الأوروبي الذي يعتمد في بعض قطاعاته على المهاجرين، على سبيل المثال، تحتاج ألمانيا لمهاجرين لسد نقص العمالة في قطاعات الصحة والصناعة، وتشديد القيود قد يؤدي لنقص الكفاءات وارتفاع تكاليف الإنتاج، إضافة إلى إضعاف قدرة المهاجرين الحاليين على الاندماج، ما يترك مجالًا للتنظيمات المتطرفة لاستقطابهم.
تواجه أوروبا اليوم معضلة حقيقية في كيفية التوازن بين حماية أمنها الداخلي والحفاظ على إرثها كمدافع عن حقوق الإنسان، وبحسب خبراء، فإن نجاح الاتحاد الأوروبي في تجاوز هذه الأزمة يتطلب إعادة صياغة خطاب الهجرة بعيدًا عن الشعارات السياسية قصيرة الأمد، واعتماد سياسات إنسانية عادلة وشاملة.
ويبقى الرهان الأكبر.. هل تستطيع مؤسسات الاتحاد حماية روح اتفاقية شنغن ومنظومة القيم الأوروبية، في مواجهة الرياح العاتية من الأزمات الاقتصادية وصعود الشعبوية، أم إن القلاع ستبقى مغلقة، تاركةً وراءها إرثًا من الخسائر الإنسانية والسياسية يصعب إصلاحه؟