استقلال القضاء على المحك.. ترامب يدفع وزارة العدل لمقاضاة خصومه السياسيين
استقلال القضاء على المحك.. ترامب يدفع وزارة العدل لمقاضاة خصومه السياسيين
في تطور لافت مثّل تصعيداً في المواجهة بين البيت الأبيض والمؤسسات القضائية، وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نداءً علنياً لوزيرة العدل بام بوندي لملاحقة شخصيات سياسية بارزة، من بينهم السيناتور آدم شيف والمدعية العامة في نيويورك ليتيشا جيمس، مع تكرار اتهامات لهما بتزوير وثائق متعلقة بطلبات قروض عقارية.
وفي أعقاب ضغوط رئاسية على مكتب الادعاء الاتحادي في شرق فيرجينيا، غادر المدعي الاتحادي إريك سيبرت منصبه، ثم أعلن الرئيس نيته ترشيح المحامية ليندسي هاليغان، والتي سبق أن مثّلت ترامب، لتسلم إدارة هذا المكتب الحساسن ودفع تصعيد التسريبات والمطالبات العلنية وسائل إعلامية وقانونية إلى اتهام الإدارة بسعيٍ لتسييس مرفق العدالة، وفق "بولوتيكو".
القلق لا يقتصر على استهداف أفراد بعينهم، بل يرتبط بنمط أوسع من التدخّل في قرارات مهنية للادعاء الفيدرالي، ويعد مكتب المدعي الاتحادي في شرق فيرجينيا ذا نفوذ لكونه ينتدب تحقيقات كبرى؛ واستقالة سيبرت بعد تقرير يفيد بأنه رفض توجيه تهم لغياب دلائل كافية أثارت تساؤلات عن مدى سماح الرئاسة بتدخل مباشر في تقديرات الادعاء الجنائي، والاتهامات متبادلة والرسائل عبر منصات التواصل من البيت الأبيض حول “وجوب تحقيق العدالة الآن” تضخ مشاعر بأن القرارات القضائية تُشتق من دوافع سياسية بدل معايير قانونية مستقلة، وفق أسوشيتدبرس.
صياغة جديدة للأولويات
ما يجري اليوم لا ينبع من فراغ؛ فقد شهدت وزارة العدل الأمريكية، منذ بداية الولاية الرئاسية الحالية، تغييرات هيكلية في وحدات رقابية بارزة، بما في ذلك تراجع دور قسم النزاهة العامة وتسريح عشرات أو مئات من موظفي الإدارة القانونية المهنية، ما حدّ –بحسب تحقيقات صحفية وتقارير– من قدرة مهنيي الادعاء على اتخاذ قرارات مبنية على معايير مهنية مستقرة، وهذه التحولات خلقت بيئة مؤسسية أكثر هشاشة أمام ضغوط سياسية وربما سهّلت عمليات توجيه أو تسريع قضايا مُختارة.
ثمة عوامل متداخلة تتمثل في رغبة إدارة البيت الأبيض في مواجهة خصوم سياسيين انتقاما أو لتعزيز ورقة سياسية أمام قواعد التأييد، وتراكم سجالات قانونية طالت الرئيس (قضايا جنائية ومدنية سابقة)، وحالة أحادية في محيط السلطة التنفيذية دفعت إلى استبدال مسؤولين مهنيين أو تخفيف سلطات فئات رقابية داخل الوزارة، كما يلعب الاستقطاب الحزبي دوراً أساسياً: استخدام البلاغات والتحقيقات كأداة سياسية لتقوية موقف الطرف الحاكم أو تشويه خصومه في لحظات ضاغطة سياسياً.
تسييس مرفق الادعاء يحمل تبعات جسيمة، فعلى المستوى الدستوري، يضرب مبدأ الفصل بين السلطات إذا ما تحوّل المدعي العام ومكاتب الادعاء إلى ملحق تنفيذي يخدم أجندة سياسية؛ وعملياً، يخلق ذلك تآكل ثقة العامة في نظام العدالة ويكبح حرية المعارضة السياسية ويولّد مخاطر ثأرية تقوّض تداول السلطة، أما على مستوى المؤسسات قد يؤدي الضغط إلى هجرة مهنيين من مراكز التحقيق والادعاء، ما يضعف القدرة على مقاضاة الفساد والجرائم الحقيقية ويترك فراغاً ينعكس سلباً على الضحايا والمجتمع.
ردود فعل المجتمع المدني
ردود الفعل كانت سريعة ومختلفة الطبقات حيث انتقدت أحزاب معارضة وقادة سياسيون ما اعتبروه هجوماً على استقلال القضاء، ومنظمات حقوقية ومدنية رأت في الخطوات إشارة إلى مخاطر تسخير العدالة لمآرب سياسية، وحذرت جهات مهنية في المجتمع القانوني من أن مبدأ اتخاذ قرارات النيابة على أساس الأدلة وليس على أساس رغبات سياسية هو ضمان أساسي للعدالة، ودعت إلى حراسة المعايير المهنية، وأشارت تقارير صحفية وثيقة الصلة إلى أن تغييرات سابقة في هيكل الوزارة أضعفت قدرات الرقابة الداخلية وخلقت أرضية مواتية لمثل هذا الضغط.
لم تشهد الولايات المتحدة منذ عهد أزمة ووتّرغيت تسييساً مماثلاً للعدالة حيث انتهت تلك السابقة التاريخية بتداعيات سياسية وقضائية عميقة، ووضعت معالم حماية استقلال الإجراءات القانونية، واليوم، يثير باحثون ومراقبون تشبيهات حذرة تحذّر من تكرار مأزق إضرار بالمؤسسات إذا استمرّ السلوك نفسه في عهد ترامب، وإن كانت الظروف والآليات مختلفة.
آليات الرد والضبط
الضوابط الممكنة متعددة بحسب منظمات ومراقبين حقوقيين منها رقابة الكونغرس من خلال استدعاءات وسماع شهادات، استخدام القضاء لدرء أي تجاوز عن طريق استئنافات وطلبات قيد أوامر إدارية، وصياغة تشريعات تنظم تعيينات المدعين الفدراليين أو تحدّد إطاراً رقابياً أكبر لاستقلال قرارات الادعاء، وسياسياً، يمكن أن يؤدي الضغط العام واحتجاجات المجتمع المدني إلى ردع محاولات التجاوز.
المشهد الراهن في الولايات المتحدة يختبر قدرة مؤسسات دستورية تقليدية على الصمود أمام ضغوط تنفيذية مباشرة، وتحويل قرارات ملاحقة جنائية إلى أداة سياسية لا يضرّ فقط بالمدعى عليهم المحتومين، بل يضعف أيضاً قدرة الدولة على محاسبة منتهكي القانون الحقيقيين، والحلّ العملي يتطلب درعاً مؤسساتياً يتمثل في الحفاظ على نزاهة مكاتب الادعاء، وإعادة بناء وحدات الرقابة المهنية، وتعزيز آليات الكونغرس والقضاء للحيلولة دون استغلال العدالة كأداة انتقام، والزمن أمام الديمقراطية الأمريكية لن يطول قبل أن يختبر قدرة مؤسساتها على التصدي لهذه الضغوط وحماية مبدأ أن العدالة تُحكم بالقانون لا بالمصالح السياسية.