حرائق أكبر وموارد أقل.. أزمة التوظيف بدائرة الغابات تهدد أمن ملايين الأمريكيين
حرائق أكبر وموارد أقل.. أزمة التوظيف بدائرة الغابات تهدد أمن ملايين الأمريكيين
مع اشتداد موسم حرائق الغابات في الولايات المتحدة هذا العام، تكشَّف واقع خطير خلف التصريحات الرسمية المطمئنة، فنقص حاد في رجال الإطفاء المؤهلين يضع آلاف الأرواح والممتلكات الطبيعية تحت رحمة ألسنة اللهب، في بلد يملك أضخم موارد الإطفاء في العالم، تُظهر البيانات الأخيرة أنّ أكثر من ربع وظائف مكافحة الحرائق في دائرة الغابات الأمريكية لا تزال شاغرة، ما يقوّض الجاهزية الفعلية لمواجهة الكوارث الطبيعية المتفاقمة بفعل التغيّر المناخي.
رغم تطمينات توم شولتز، رئيس دائرة الغابات الأمريكية، بأن "الوكالة جاهزة بنسبة 99% للهجوم على الحرائق المتوقعة هذا الموسم"، فيما جاءت بيانات داخلية نُشرت في يوليو لتكشف أن نحو 5100 وظيفة لم يتم شغلها، بما يمثل 26% من إجمالي الكوادر المطلوبة هذه الفجوة تزداد خطورة في مناطق شديدة الحساسية مثل شمال غرب المحيط الهادئ (39% شواغر) ومنطقة إنترماونتن (37% شواغر)، وهي مناطق شهدت بالفعل حرائق أكبر وأكثر شراسة هذا العام مقارنة بالمتوسط.
هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم النقص العددي، بل تكشف أيضًا فراغًا نوعيًا في الكوادر القيادية والمتقدمة، الضرورية لتنسيق الخطط الميدانية وضمان سلامة الطواقم على الأرض. كما أوضح أحد رؤساء الإطفاء، «من دون مشرفين ذوي خبرة، لا نستطيع حتى إرسال فرق الإطفاء إلى الميدان بأمان».
موسم أسوأ من المتوقع
حتى منتصف يوليو، سجلت الولايات المتحدة أكثر من 41 ألف حريق غابات هذا العام، بزيادة 31% على متوسط السنوات العشر الأخيرة، حريق ولاية أوريغون وحده امتد على مساحة تفوق 95 ألف فدان، ليصبح الأكبر في البلاد خلال هذا الصيف.
وفي المجمل، كان رجال الإطفاء الفيدراليون يكافحون 83 حريقًا كبيرًا بحلول 21 يوليو، وسط توقعات رسمية باستمرار درجات الحرارة المرتفعة وظروف الجفاف حتى سبتمبر المقبل، ما يزيد من احتمالات اتساع رقعة الكارثة.
ورغم هذه التوقعات القاتمة، كشف ستة من رجال الإطفاء الفيدراليين، في تصريحات لصحيفة "الغارديان" البريطانية، أن فرقهم تعمل غالبًا بنصف طاقتها أو أقل، وسط ضغط رهيب يهدد سلامتهم النفسية والجسدية، قال أحدهم: الأمر أشبه بجهاز تعذيب قديم يُشدُّ أكثر فأكثر.
رواتب منخفضة وإرهاق
الأزمة الحالية هي نتيجة تراكمات سنوات من الإهمال الإداري وضعف التخطيط الاستراتيجي، منذ عام 2021 وحتى 2024، فقدت دائرة الغابات الأمريكية نحو نصف موظفيها الدائمين، وهو نزيف أرجعه الخبراء إلى تدني الرواتب مقارنة بخطورة العمل، والضغط الهائل الذي يتعرض له رجال الإطفاء خلال مواسم الحرائق الطويلة.
تقول بوبي سكوبا، وهي إطفائية متقاعدة خدمت 45 عامًا: "من يغادروننا هم الأكثر خبرة، والبدلاء غالبًا شباب في التاسعة عشرة بلا خبرة كافية"، هذا الفراغ المعرفي يُفقد الوكالة مرونتها ويزيد مخاطر القرارات الميدانية الخاطئة.
ويواجه رجال الإطفاء مواسم حرائق أطول وأكثر شراسة بسبب أزمة المناخ، دون أن ينالوا فترات راحة كافية، مع نقص الطواقم، يضطر كثيرون للعمل أسابيع متواصلة بلا انقطاع، في درجات حرارة قياسية وظروف ميدانية خطرة، تشير شهادات إلى حالات إرهاق شديد، وتأخُّر في الرواتب، وغياب الدعم الإداري وحتى الوجبات الساخنة بسبب تقليص موظفي الخدمات اللوجستية.
قالت سكوبا: "البعض يضطر للقيام بأعمال الصيانة والسباكة في المعسكرات إلى جانب واجباتهم الميدانية، لقد أرهقوهم لدرجة غير إنسانية".
تقليص الإنفاق الحكومي
شهدت دائرة الغابات الأمريكية محاولات متكررة لتقليص الإنفاق الحكومي منذ تولى إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي دفعت ببرنامج إجازة إدارية مدفوعة الأجر لتقليل عدد الموظفين بسرعة. نحو 4800 موظف، بينهم 1400 يحملون بطاقات حمراء (مؤهلون لعمليات الإطفاء المتقدمة)، غادروا الوكالة عبر هذا البرنامج.
ومع أن رجال الإطفاء استُثنوا رسميًا، إلا أن فقدان الدعم الإداري زاد الضغط عليهم بشكل كارثي.
تُضاف إلى ذلك خطط الإدارة الحالية لدمج رجال الإطفاء في وكالة جديدة تابعة لوزارة الداخلية، رغم أن الفكرة تلقى دعمًا مبدئيًا، إلا أن تسريعها وسط موسم حرائق خطير يثير قلق خبراء الإطفاء والمشرعين، خشية أن تُلهي الإدارة عن الأولوية الأهم: حماية الأرواح.
ولم تقف تداعيات تلك القرارات عند حدود نقص الكوادر، بل انعكست على الروح المعنوية لرجال الإطفاء الذين وجدوا أنفسهم مُجبرين على أداء مهام خارج نطاق عملهم –من صيانة المراكز وجزّ الأعشاب وحتى إدارة العقود الغذائية– وسط ظروف مناخية متطرفة ومواسم حرائق أطول وأكثر شراسة، كما ترك برنامج الاستقالات الطوعية، الذي شجّع آلاف الموظفين ذوي الخبرة على مغادرة مواقعهم، أثرًا بالغًا على جاهزية الفرق، خاصة مع صعوبة تعويض هذا النزيف بالكوادر الشابة محدودة الخبرة.
ويرى كثيرون أن تلك الأزمة لم تكن وليدة المناخ وحده، بل نتيجة مباشرة لسياسات تقشف قصير النظر، حرمت الخطوط الأمامية من أهم مقوماتها: التمويل الكافي، والاستقرار الإداري، واستثمار طويل الأمد في تدريب وحماية رجال الإطفاء.
واليوم، ومع اتساع رقعة الحرائق وارتفاع درجات الحرارة، تكشف تلك القرارات عن كلفتها الإنسانية والبيئية الهائلة التي يدفع ثمنها رجال الإطفاء والمجتمعات المحلية على حدّ سواء.
تداعيات على البيئة وحقوق الإنسان
تتعدى الأزمة الجانب الإداري إلى أضرار مباشرة على البيئة والمجتمعات المحلية.. تشير تقارير أممية إلى أن تراجع فعالية فرق الإطفاء يسهم في فقدان آلاف الأفدنة من الغابات سنويًا، وهو ما يضاعف انبعاثات الكربون ويضر بالتنوع الحيوي، وفي المقابل، يدفع السكان المحليون الثمن الأكبر من نزوح جماعي، وتلوث هواء خانق، وفقدان سبل العيش في المجتمعات الريفية التي تعتمد على الغابات.
ويطالب رجال الإطفاء والمنظمات البيئية والحقوقية بخطة إنقاذ عاجلة، تبدأ بزيادة الرواتب لتتماشى مع خطورة العمل، وتسهيل برامج الدعم النفسي والطبي، وإعادة توظيف الكفاءات التي غادرت، إضافةً إلى وضع استراتيجية واضحة لمواجهة آثار التغيّر المناخي.
أما الدمج الإداري المقترح فيحتاج إلى دراسة متأنية تضمن الحفاظ على الخبرات وعدم تعطيل جهود الاستجابة الميدانية في ذروة الخطر.
تُظهر هذه الأزمة أن مكافحة الحرائق ليست مجرد مسألة أعداد معدات وطواقم، بل معركة طويلة ضد الإهمال السياسي والإنهاك النفسي والتحديات المناخية المتسارعة، وبينما يزداد موسم الحرائق سخونة، يبقى الأمل معلقًا على تحرك سريع وجاد يعيد الاعتبار للخط الأمامي الذي يقف في مواجهة النيران: رجال الإطفاء.