"أكلٌ كالكلاب ونومٌ على الخرسانة".. انتهاكات تكشف الوجه المظلم لاحتجاز المهاجرين في الولايات المتحدة

"أكلٌ كالكلاب ونومٌ على الخرسانة".. انتهاكات تكشف الوجه المظلم لاحتجاز المهاجرين في الولايات المتحدة
أحد مراكز الاحتجاز في الولايات المتحدة

 

وسط شعارات الحرية والعدالة التي تتغنى بها الولايات المتحدة، تكشف التقارير الحقوقية مؤخرًا عن صورة مغايرة تمامًا تدور خلف القضبان الحديدية لمراكز احتجاز المهاجرين، إذ يتعرض آلاف المحتجزين لظروف لاإنسانية تنتهك أبسط حقوقهم، وتجرّدهم من كرامتهم، في مشهد يُعري نظام احتجاز يعاني أوجه قصور بنيوية وتاريخية.

كشف تقرير صدر في يوليو الجاري أعدته منظمات “هيومن رايتس ووتش” و"أمريكيون من أجل العدالة للمهاجرين" وملاذ الجنوب، عن انتهاكات جسيمة داخل ثلاثة مراكز احتجاز للمهاجرين في فلوريدا منذ يناير 2025، تحت عنوان "تشعر وكأن حياتك قد انتهت"، يوثّق التقرير، في 92 صفحة، شهادات 17 مهاجرًا حول ممارسات وصفت بأنها مهينة، وغير قانونية، وأحيانًا مهددة للحياة.

من بين أكثر الصور صدمةً، كان إجبار المحتجزين في مركز الاحتجاز الفيدرالي بميامي على تناول الطعام وهم مكبلون بالأصفاد وأيديهم خلف ظهورهم، مجبرين على الركوع والانحناء لتناول الطعام من أطباق بلاستيكية "كالكلاب"، بحسب وصف أحدهم.. في مشهد يختزل حالة نزع الكرامة الممنهج الذي يتعرض له هؤلاء الأشخاص لمجرد أنهم سعوا لحياة أفضل.

اكتظاظ وبرد وجوع

التقرير يكشف أيضًا كيف تحولت مرافق الاحتجاز إلى أماكن مكتظة بشكل خطير؛ ففي مركز "كروم نورث" غرب ميامي، بلغ الاكتظاظ ذروته حتى اضطرت السلطات إلى احتجاز الوافدين الجدد في غرف استقبال شديدة البرودة بلا أسرّة، عُرفت بين المحتجزين بـ"صندوق الثلج"، هؤلاء الأشخاص كانوا ينامون على أرضية خرسانية قاسية، محرومين من الأغطية أو الملابس الدافئة.

أما في حالات أخرى، فقد احتُجز معتقلون داخل حافلات لأكثر من 24 ساعة في مواقف سيارات دون السماح لهم بالنزول، واضطروا لاستخدام مرحاض صغير انسد سريعًا، لتنتشر روائح البراز في الحافلة بأكملها، مشاهد وصفها أحدهم بأنها "إذلال جماعي"، حيث تم التعامل مع البشر كحِمل زائد لا يُعرف أين يوضع.

حرمان من الرعاية حتى الموت

الحرمان من الرعاية الطبية والنفسية يظهر بوضوح في التقرير، في مركز "بروارد الانتقالي" توفيت ماري أنجي بليز، وهي مهاجرة هايتية تبلغ من العمر 44 عامًا، بعد أن تأخر طاقم السجن في طلب المساعدة الطبية رغم صرخات المحتجزات الأخريات، وقالت شاهدة عيان: "بدأنا نصرخ طلبًا للمساعدة، لكن الحراس تجاهلونا.. عندما وصل فريق الإنقاذ كانت قد فارقت الحياة".

الحالات الموثقة لا تقتصر على الوفيات، إذ سُجلت أيضًا إصابات خطيرة نتيجة الإهمال الطبي، مثل إصابة محتجز بانسداد معوي نتيجة فتق مختنق ظل بلا علاج حتى انهار من الألم، قال الطبيب لاحقًا إنه لو تأخر أكثر، لانفجرت أمعاؤه.

أما على المستوى النفسي فالعقاب الصارم بانتظار من يطلب المساعدة، إذ قالت محتجزة إن طلبها الدعم النفسي أدى لعزلها انفراديًا لأسبوعين، فاختار الكثيرون الصمت خوفًا من العقوبة.

ترامب خلال زيارته لأحد مراكز الاحتجاز

جذور أزمة ممتدة

هذه الانتهاكات ليست مجرد حوادث معزولة، بل نتاج نظام احتجاز للمهاجرين يعاني خللاً هيكليًا، وجذور الأزمة تعود لعقود، حيث توسع احتجاز المهاجرين كأداة ردع سياسي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من خطاب أمني مشدد. 

ومع تولي الرئيس دونالد ترامب ولايته الأولى في 2017، تضاعفت سياسات القبض والترحيل، مدفوعة بخطاب قومي معادٍ للهجرة.

بحسب بيانات دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE)، بلغ متوسط المحتجزين يوميًا في منتصف يونيو 2025 نحو 56,400 شخص، 72% منهم بلا سجل إجرامي، أما المتوسط اليومي لعام 2024 فبلغ 37,500 حالة.. هذه الأرقام تكشف مفارقة واضحة بين هدف حماية المجتمع من الخطر، وواقع احتجاز عشرات الآلاف بلا تهم جنائية.

انتهاكات مزدوجة ضد النساء

النساء في هذه المراكز يتعرضن لانتهاكات خاصة مرتبطة بجنسهن، ففي مركز "كروم نورث" احتُجزن في غرف مكشوفة حيث يمكن للمحتجزين الذكور رؤيتهن وهن يستخدمن المرحاض، كما حُرمن من الاستحمام لفترات طويلة بذريعة أن المكان مخصص للرجال، وروت امرأة أرجنتينية كيف توسلت للاستحمام لكن طُلب منها الانتظار إلى أجل غير مسمى.

هذه الانتهاكات تتجاوز الإذلال النفسي لتلامس تهديدًا مباشرًا للسلامة الجسدية والصحة.

تقارير حقوقية وتوصيات عاجلة

بحسب التقرير، هذه الأوضاع تنتهك التزامات الولايات المتحدة بموجب القانون الدولي، ومعايير الاحتجاز الفيدرالية التي تلزم بتوفير بيئة إنسانية ورعاية طبية مناسبة.

ودعت المنظمات الحقوقية الثلاث (هيومن رايتس ووتش وأمريكيون من أجل العدالة للمهاجرين وملاذ الجنوب) الحكومة الأمريكية إلى: إنهاء استخدام الاحتجاز كخيار تلقائي للمهاجرين، وتبني بدائل مجتمعية أكثر إنسانية وأقل تكلفة، وتوفير رقابة مستقلة على مراكز الاحتجاز، إضافة إلى تحسين شروط الاحتجاز، خاصة الرعاية الطبية والنفسية.

وقالت بلقيس ويلي، المسؤولة في هيومن رايتس ووتش: "هذه ليست حالات فردية، بل تعبير عن نظام محتجز ومعطل جذريًا"، أما دينيس نونان سلافين من "أمريكيون من أجل العدالة للمهاجرين" فأضافت: "السماح باستمرار هذه المظالم يُهين القيم الأمريكية نفسها".

معضلة أخلاقية وقانونية

في النهاية، تبدو الولايات المتحدة عالقة بين خطاب حقوق الإنسان الذي تروّج له عالميًا، وبين ممارسات داخلية تنتهك أبسط مبادئ الكرامة، إذ يتم تقييد أشخاص لمجرد عدم امتلاكهم أوراق إقامة، وإخضاعهم لعقاب جماعي يجرّدهم من إنسانيتهم.

بين جدران هذه المراكز، يصبح الطعام الملقى أرضًا هو الكرامة الأخيرة التي تُسحق، وتصبح برودة الأرض الخرسانية أقسى من برودة القوانين التي لا تُنفَّذ، في نظام يعامل البشر كأرقام تنتظر الترحيل.

تكشف الشهادات والبيانات عن أزمة حقوق إنسان متجذرة، لا يمكن تبريرها بخطاب حماية الحدود، إنها أزمة إنسانية تمس آلاف البشر كل يوم، وتستدعي مواجهة حقيقية مع السؤال الأخلاقي والقانوني الأكبر: هل يحق لأي دولة أن تنزع عن الإنسان إنسانيته فقط لأنه مهاجر غير نظامي؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية