من ميامي إلى بورت أو برنس.. كيف تصنع الأسلحة الأمريكية الرعب في شوارع هايتي؟

4 من كل 5 نساء تعرضن للعنف

من ميامي إلى بورت أو برنس.. كيف تصنع الأسلحة الأمريكية الرعب في شوارع هايتي؟
أفراد عصابات يحملون الأسلحة في أحد شوارع هايتي

 

تسيطر عصابات هايتية متعددة، مسلحة بأسلحة نارية مستوردة بشكل غير قانوني من الولايات المتحدة، على معظم العاصمة بورت أو برنس، ما يحول البلاد إلى واحدة من أكثر الدول عنفًا حول العالم، وفقًا لتقرير موسع أصدرته صحيفة "فايننشال تايمز"، يشكل هذا الوضع تهديدًا حقيقيًا لأمن السكان، خصوصًا النساء، حيث يعاني أربع من كل خمس نساء في العاصمة من أشكال مختلفة من العنف المباشر أو غير المباشر.

شنّ تحالف العصابات المعروف باسم "فيف أنسانم"، في 25 فبراير 2025، هجومًا آثمًا على حي دلماس 30 المكتظ بالسكان في بورت أو برنس، مستعينًا ببنادق هجومية مسلحة ومسدسات وسواطير.

شنت العصابة هجماتها بلا رحمة، ونهبت المنازل وأحرقتها، وارتكبت عمليات اغتصاب مروعة وقتلت اثنين من الجنود السابقين أثناء هجومها الدموي، بحسب شهادات السكان، التي نقلتها "فايننشال تايمز".

تعاني الناجية جونيس غريسول وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات، ضمن 4800 من النازحين الذين فروا من هذا الحي نحو أماكن آمنة مؤقتة، من تداعيات هذا الهجوم الدموي.

قالت غريسول إن الشرطة لم تستطع ردع العصابات بسبب العدد الهائل من المهاجمين والأسلحة الفتاكة التي يمتلكونها، تؤكد هذه الحقائق حجم التحديات الأمنية التي تواجه السلطات الهايتية.

تسجل السلطات الهايتية زيادة كبيرة في معدلات العنف المسلح، حيث ارتفعت جريمة القتل إلى 5626 حالة في عام 2024، بزيادة ألف جريمة عن العام السابق، كذلك وثقت الأمم المتحدة وقوع 2700 عملية قتل إضافية خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025. تسبب هذا الوضع في نزوح قسري لما يصل إلى 1.3 مليون شخص من أصل 11.5 مليون نسمة، في حين يعاني 5.7 مليون شخص من أزمات غذائية خانقة.

تستورد العصابات معظم أسلحتها ذات الطابع العسكري من متاجر الأسلحة الأمريكية، ذكر وزير المالية الهايتي، ألفريد ميتيلوس، أن سهولة شراء الأسلحة في الولايات المتحدة ومن ثم شحنها إلى هايتي يعزز قدرة العصابات على تحدي الدولة، كما أوضح أن معظم تلك الأسلحة تمر برحلة عبر "نهر ميامي".

تداعيات الفوضى السياسية والاجتماعية

يرتبط نشوء العصابات في هايتي بعقود من الفوضى السياسية والاجتماعية، يقول رومان لو كور غراندميزون، الباحث في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، إن هذه العصابات نشأت من مجموعات شبه عسكرية قُدمت للدفاع أو السيطرة خلال حقبة ديكتاتورية دوفالييه، لكنها تحولت فيما بعد إلى أدوات للهيمنة والترهيب وجمع الأموال عبر الابتزاز والتهريب، ما أكسبها استقلالية عن أي سلطة رسمية.

ويشير رئيس المجلس الرئاسي الانتقالي في هايتي، فيتز جان، إلى أن تحالف "فيف أنسانم" الذي تأسس في مطلع 2024، جمع قوى متضاربة من العصابات لينسق عملياتها، ويعمل على إثارة الفوضى بهدف توجيه ضربة لسلطة الدولة وعدم الاستقرار السياسي.

يؤكد دييغو دا رين، محلل شؤون هايتي في مجموعة الأزمات الدولية، أن الهدف الجوهري لهذا التحالف هو فرض نفوذه العنيف على مراكز السلطة السياسية، دون تقديم خطط بديلة أو حلول، ما يزيد من هشاشة الدولة ويعزز العنف المسلح.

ميليشيات شبه عسكرية

تنشر العصابات عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر امتلاكها أسلحة عسكرية حديثة، منها سيارات دفع رباعي مصفحة ومناظير للرؤية وغيرها من المعدات القتالية، ما يعكس تحولها إلى ميليشيات شبه عسكرية.

يتباهى زعيم عصابة "سيغون 5" جونسون أندريه، المعروف باسم "إيزو"، بهذه الأسلحة والدروع الواقية، ويستخف بقوات الدعم الأمني المتعددة الجنسيات التابعة للأمم المتحدة (MSS)، والتي تقودها كينيا لدعم الشرطة الوطنية الهايتية هشة التسليح.

يشرح المؤسس المشارك لمعهد إيجارابي للأبحاث الأمنية، روبرت موغا، أن هذه العصابات زادت من اعتمادها على أسلحة ذات عيار ثقيل مثل بندقية القنص AR-15 والمسدسات المضادة للدروع M10، ويشير إلى أن وجود حتى مئة قطعة من هذا السلاح يمكن أن يغير بشكل جذري ديناميات المواجهة المسلحة.

طرق التهريب المعقدة

أجرت "فايننشال تايمز" تحليلًا لسجلات المحاكم الأمريكية وبيانات الشحن والسلطات الهايتية والدومينيكية يظهر كيفية وصول الأسلحة إلى هايتي، في فبراير 2025، ضبطت سلطات في جمهورية الدومينيكان سفينة شحن ضخمة قادمة من ميامي تحمل في حاوية شحن سلعاً مستعملة و20 سلاحًا ناريًا و36 ألف طلقة ذخيرة.

ترافق هذه الأسلحة ذخيرة من شركات أمريكية مثل "بي إم سي أميونيشن" و"فيوتشي أوف أمريكا"، التي تظهر في تسجيلات فيديو خاصة بالعصابات، إلى جانب ذلك، تم العثور على بندقية "باريت م 82" الأمريكية المصنعة للاستخدام العسكري والتي تمتاز بقدرتها على اختراق المركبات المدرعة.

يشير التقرير إلى أن عنصر القوة النارية لا يقتصر على هذه الشحنات فقط، بل تستولي العصابات على مزيد من الأسلحة المسروقة من الجيش والشرطة الهايتيين، في عام 2022، ضبطت جمارك ميناء هاينا أوكسيدنتال أكثر من 112 ألف وحدة من الأسلحة والذخيرة في شحنات قادمة من ميامي.

تكشف الوثائق أن فيروان فيكتور، عضو برلمان سابق، تلقى 24 شحنة تحتوي على أسلحة وذخيرة حسب العقوبات الأمريكية، ووصفت السلع بأنها "أمتعة شخصية" تشمل أحذية وملابس مستعملة.

يوضح أستاذ الدراسات الأمريكية اللاتينية، إيفان إليس، أن 73% من الأسلحة المستخدمة في جرائم منطقة الكاريبي بين 2018 و2022 تعود إلى الولايات المتحدة، خصوصًا من فلوريدا وجورجيا وتكساس، كما يحصل الهايتيون على معدات قتالية أخرى من الصين.

قوانين أمريكية متساهلة

تجعل قوانين فلوريدا المتساهلة من شراء الأسلحة أمرًا سهلاً، فهي لا تتطلب تصاريح مسبقة ولا تحد من كمية الأسلحة التي يمكن شراؤها في صفقة واحدة، ألغت الولاية في 2023 متطلبات التدريب ورسوم الترخيص، وأزالت التحقق من الخلفية لحمل الأسلحة المخفية، كما قللت من الرقابة على شراء الذخيرة.

تصف عضو الكونغرس عن جنوب فلوريدا والمشرعة الأمريكية الهايتية الوحيدة، شيلا تشيرفيلوس-ماكورميك، أن بين 80 و85% من الأسلحة في هايتي تأتي من الولايات المتحدة عبر "نهر ميامي"، وأن التشريعات الحالية توفر فرصة لأي شخص متعاون مع العصابات لشراء الأسلحة وإرسالها إلى هايتي.

ويوضح المدير التنفيذي لمنظمة "لاكو لابي"، لويس هنري مارس، أن تشريعات الأسلحة في الولايات المتحدة تسمح للعصابات بالوصول إلى أسلحة عسكرية بحرية شبه مطلقة، كما يشرح المسؤول السابق في وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، جوزيف ليسترانج، أن العصابات تستخدم أشخاصًا ذوي سجلات نظيفة للشراء باسمه، مستغلين قوانين الولاية لشراء كميات كبيرة من السلاح عبر تجار الأسلحة المرخصين.

ينقل التحقيق تفاصيل عن جولي جيرمين، زعيم عصابة "400 ماوزو"، الذي استخدم وسطاء وهميين في فلوريدا للشراء من متاجر الأسلحة بشكل قانوني، واشترى بنادق من طراز "باريت إم 82" و "أيه كيه" تحت ستار أمتعة شخصية، ثم غطى هذه الشحنات في براميل وأرسلها إلى هايتي.

تستخدم العصابات أموال عمليات اختطاف وابتزاز لدفع تكاليف شراء الأسلحة، كما أشار التحقيق إلى عمليات تحويل أموال ذكية لتجنب الشكوك والكشف المالي، وأُدين جيرمين عام 2024 في الولايات المتحدة بسبب الإتجار بالأسلحة والاعتداء على مواطنين أمريكيين.

يذكر التحقيق أن أحد متاجر الأسلحة المستخدم ضمن الشبكة هو "لاكي باون" في شمال ميامي، حيث رفض موظفو المتجر الكشف عن تفاصيل عمليات التفتيش، مؤكدين أن حجم الأسلحة المشحونة إلى هايتي ضئيل مقارنة بالدعم العسكري الأمريكي لدول أخرى.

تعتمد العصابات على شركات الشحن مثل "يوجينيو تريدينغ" و"أنتيليان مارين" في ميامي، التي تفتقر عادة إلى القدرة أو الرغبة في تفتيش محتويات الحاويات بدقة، ما يسهل تهريب الأسلحة.

عثر مفتشو الجمارك في فبراير 2025 على شحنة ضخمة على سفينة "سارا ريجينا" متجهة إلى جمهورية الدومينيكان ومنها إلى هايتي.

يشير التقرير إلى أن الجمارك الأمريكية كانت تفحص أقل من 5% من الصادرات مع وجود استثناء في قيمة البضائع، ما يفتح المجال أمام تهريب كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة.

تجمع عصابة "ماووزو 400"، التي يملك بعض أعضائها خبرات اكتسبوها خلال احتجازهم في السجون الأمريكية، تجارة السلاح داخل هايتي، حيث تضاعفت أسعار بعض الأسلحة بشكل كبير، فمسدسات تُباع في الولايات المتحدة ب400-500 دولار، تُباع في هايتي بما يصل إلى 10 آلاف دولار، فيما تصل البنادق المتطورة إلى عشرات الآلاف، ما يعزز الدائرة الاقتصادية الإجرامية، ويغذي العنف والتشريد.

يصرح وزير المالية الهايتي، ألفريد ميتيلوس، أن الدولة تخسر يومياً 3.8 مليون دولار بسبب سيطرة العصابات على ميناء بورت أو برنس ومن جهته، تفرض العصابات إتاوات بمعدل ألفي دولار لكل حاوية تعبر الحدود مع جمهورية الدومينيكان، ما يعزز ثرواتها ويضعف قوة الدولة باستمرار.

دور الأمم المتحدة

تفرض الأمم المتحدة حظرًا على الأسلحة في هايتي منذ أكتوبر 2022، وأعلنت الولايات المتحدة عصابة "فيف أنسانم" منظمة إرهابية أجنبية، لكن هذه الإجراءات لم تقضِ على تفشي العنف، فالبندقية في البلاد.

تعززت الردود بالتعاون مع مرتزقة أمريكيين واستخدام طائرات بدون طيار مثل الهجوم على زعيم العصابة جيمي "باربيكيو" شيريزير في مارس 2025، إلا أن العصابات مستمرة في التحدي، متكبدة خسائر لكنها تبقى قوة مؤثرة.

يرى المحلل الأمني جيمس بويارد أن الحكومة الهايتية عاجزة تمامًا عن مواجهة العصابات دون دعم دولي متقدم، ولا سيما أن وزارة الأمن الداخلي الهايتي تواجه ما يصفها بـ"المهزلة".

يذكر التقرير أنه قُتل 345 عضوًا على الأقل في العصابات خلال هجمات الطائرات بدون طيار بين مارس ومايو 2025، لكن العنف في أحياء العاصمة لا يهدأ، إذ تنتشر تبادلات إطلاق النار بين العصابات ومجموعات المقاومة المحلية.

يتأزم المشهد السياسي، فالمجلس الرئاسي الانتقالي بعد انهيار حكومة أرييل هنري في أبريل 2024، يواجه صراعات مدمّرة واتهامات بالفساد، ويُعتقد أنه لن يدعو لانتخابات قبل فبراير 2026، ما يُهدد بمزيد من العنف والتوترات.

يؤكد لو كور غراندميزون أن تصاعد السلاح بين الجماعات المسلحة سيؤدي إلى مزيد من الخلافات على السلطة والمواقع السياسية، مستبعدًا إمكانية استقرار وعودة النظام في القريب.

وتوثق شهادات في المخيمات الإنسانية في بورت أو برنس معاناة عشرات آلاف النازحين، خاصة النساء والأطفال الذين يفتقدون الغذاء والرعاية الصحية مع تفشي أمراض حرب مثل الكوليرا والسل، فضلًا عن الأخطار الأمنية المتزايدة.

تصف ميديلين إرنست، إحدى النازحات، الوضع بـ"لا أمل لهايتي بدون أمن" في ظل استمرار العنف وفشل النظام في توفير الحماية الأساسية.

من جانبه، يؤكد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في يونيو 2025، أن الأشهر القادمة ستكون حاسمة ومصيرية، مطالبًا المجتمع الدولي بالتنسيق واتخاذ إجراءات قوية لمنع المزيد من الأسلحة غير القانونية من دخول هايتي.

ويحذر من أن استمرار تدفق هذه الأسلحة سيزيد من الفظائع المروعة، ويدعو إلى وضع حدّ لهذه المأساة الإنسانية التي أدّت إلى تدمير الأمن وحقوق الإنسان في نصف الجزيرة الكاريبية.

تكشف تغطية فايننشال تايمز أن سياسات الأسلحة الفوضوية في الولايات المتحدة، خاصة قوانين ولاية فلوريدا المتساهلة، تُغذي أكبر أزمة أمنية وإنسانية في هايتي، تصبح الأسلحة الأمريكية عنصراً أساسياً في صناعة الفوضى وحكم العصابات، مضيعةً فرص السلام والمستقبل للبشر الأكثر ضعفًا.

بينما تتواصل المناشدات الدولية لحظر الأسلحة وفرض رقابة دولية مشددة، يقر الواقع أن انعدام السيطرة وانكفاء النظام القانوني والحقوقي في هايتي يترك ملايين المدنيين ضحايا لسلسلة متتابعة من انتهاكات حقوق الإنسان والتشريد الجماعي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية