استدراج خلف الشاشات.. كيف تصطاد الجماعات المسلحة أطفال كولومبيا في فضاء التواصل الاجتماعي؟

استدراج خلف الشاشات.. كيف تصطاد الجماعات المسلحة أطفال كولومبيا في فضاء التواصل الاجتماعي؟
تجنيد الأطفال والشباب بين الجماعات المسلحة في كولومبيا

في ظل الانفتاح الرقمي المتسارع، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي في كولومبيا من أداة ترفيه وتواصل إلى ساحة صيد خطيرة للأطفال والمراهقين، فالجماعات المسلحة، التي اعتادت الاستقطاب المباشر في المناطق الريفية، انتقلت إلى استراتيجيات أكثر خفاء وفاعلية، عبر منصات مثل تيك توك وفيسبوك، لتجنيد القاصرين بأدوات دعائية جذابة تمزج بين الموسيقى والمظاهر البراقة والقوة الزائفة.

تستعرض مقاطع الفيديو مشاهد الحفلات والدراجات النارية والسيارات الفاخرة، يصاحبها إيقاع موسيقي سريع وجذاب من موسيقى الكومبيا والكوريدوس والريغيتون، بينما يظهر المقاتلون الملثمون محاطين بالنقود والكوكا والعلم الكولومبي، وذلك في مشهد يغري المراهقين الذين يعانون من التهميش والفقر.

لكن على الجانب الآخر من الشاشة، يقف أطفال من عائلات متفككة، يرتدون أحذية ممزقة، ويعيشون في مناطق نائية لا يصلها صوت الدولة ولا خدماتها.

التجنيد يبدأ من رسالة

حين غادر ابن ماريا المنزل ذات يوم ولم يعد، اكتشفت الأم المفجوعة الحقيقة من خلال حسابه على فيسبوك، كانت هناك محادثة مع فتاة مزعومة تحدثت له عن نيتها الانضمام إلى جماعة مسلحة، ليكون هذا الحديث مدخله إلى المجهول.

قصة ابن ماريا ليست استثناءً، بل أصبحت قاعدة صامتة في كثير من مناطق النزاع، فالمعلمون في هذه المناطق يؤكدون أن غياب الطلاب المفاجئ غالبًا ما يرتبط بالتجنيد، إما في صفوف الجماعات المسلحة وإما للعمل في زراعة الكوكا، المصدر المالي الأساسي لهذه المجموعات.

الفقر والتهميش بيئة خصبة للاستغلال

تشير شهادات المعلمين، مثل ديانا التي تعمل منذ أكثر من 25 عامًا في كاوكا، إلى أن الشباب في هذه المناطق يعانون من انعدام أبسط الحقوق الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والحماية، في ظل هذا الغياب، تظهر الجماعات المسلحة كبديل مزيف، تعرض المال والغذاء والاعتراف مقابل الولاء.

هذه الجماعات توظف استراتيجيات خداع متطورة. إذ يقول كارلوس ألبرتو دي لا توري، نائب ممثل مكتب حقوق الإنسان في كولومبيا، إن الأطفال لا يرون سوى مظاهر الجذب من خلال الفيديوهات، دون أن يدركوا أنهم يسيرون نحو مسارات محفوفة بالعنف والاستغلال.

ارتفاع كبير في حالات التجنيد

بحسب تقرير صادر عن الولاية القضائية الخاصة للسلام، تم تحديد 146 حسابًا على وسائل التواصل تُستخدم من قبل الجماعات المسلحة لتعزيز التجنيد الرقمي للأطفال في كولومبيا.

في الربع الأول من عام 2025 وحده، تم توثيق 118 ادعاءً بتجنيد قاصرين، وتم التحقق من 51 حالة، وخلال الفترة من 2019 إلى 2024، سُجلت أكثر من 1200 حالة موثقة، مع ارتفاع ملحوظ بنسبة 64% في عام 2024 مقارنة بالعام الذي سبقه.

المثير للقلق أن الأرقام الرسمية لا تعكس الحجم الحقيقي للظاهرة، نظرًا لغياب آليات الإبلاغ، والخوف من الانتقام، والتطبيع المجتمعي لظاهرة التجنيد.

العنف داخل المدارس والمجتمعات

لم تعد المدارس في بعض المناطق بعيدة عن مسرح النزاع، وبحسب شهادات معلمين، تستخدم الجماعات المسلحة المرافق المدرسية كمخازن للطعام، وتفرض وجودها على المدرسين والطلاب، وفي أحيان أخرى، تُجبر المعلمات على الطهي للمسلحين الذين يطلّون من نوافذ الصفوف الدراسية.

عندما يُجند الأطفال، يُنقلون إلى معسكرات نائية، حيث تُفرض عليهم حياة قاسية تبدأ بحمل السلاح وتنتهي غالبًا بممارسات استغلال جسدي وجنسي، دون أي تدريب أو حماية.

يقول المعلم ماريو إن بعض الأطفال يعودون إلى المدرسة وهم يحملون تجارب صادمة، في حين يحاول البعض تصوير تجربته على أنها بطولة لا فشل، ما يُعقّد جهود إعادة دمجهم في المجتمع.

من أدوات تجنيد إلى ضحايا اغتصاب

تمثل الفتيات نحو 40% من حالات التجنيد الموثقة، ويتعرض العديد منهن إلى انتهاكات جنسية ممنهجة، وفي إحدى الشهادات المروعة التي نقلها موقع أخبار الأمم المتحدة تحدثت "صوفيا" –اسم مستعار- عن تعرضها للاغتصاب مرارًا من قبل عناصر جماعة مسلحة في كولومبيا، تحت التهديد والإكراه.

وتحكي المعلمة ديانا عن طالبة لامعة اختفت فجأة، ثم تواصلت مع والدتها بعد أشهر لتخبرها أنها بخير، قبل أن يُعثر على جثتها في مقاطعة أخرى.

صمت العائلات وبطولة المعلمين

غالبًا ما تلتزم العائلات الصمت خوفًا من الانتقام،  في ظل هذا الفراغ، يتحول المعلمون إلى الخط الأول في كشف غياب الأطفال ومحاولة تحريك آليات الحماية، لكنهم أنفسهم يتعرضون للتهديد والطرد من مناطق النزاع.

تقول ديانا إن التعليم هو السلاح الحقيقي لمواجهة التجنيد، ولهذا السبب تسعى الجماعات المسلحة لطرد المعلمين الذين يشكلون عوائق أمام خططها.

ردود الأفعال الدولية والحقوقية

طالبت الأمم المتحدة، عبر مكتب حقوق الإنسان، شركتي ميتا وتيك توك باتخاذ إجراءات جادة لإغلاق الحسابات المرتبطة بالتجنيد، وتعزيز التنسيق مع السلطات القضائية. وبينما تم إغلاق بعض الحسابات، تظهر أخرى باستمرار.

من جهتها، تعمل اليونيسف على دعم المدارس الريفية وتحويلها إلى مساحات آمنة، ففي عام 2024، شارك أكثر من 13 ألف طفل ومراهق وآلاف من أولياء الأمور والمعلمين في ورش عمل للوقاية والرعاية، ومع ذلك، تبقى هذه الجهود محدودة في مواجهة ظاهرة تتسع رقعتها وتتنوع أدواتها.

وسبق أن حذّرت منظمة إنقاذ الطفولة ومنظمة اليونيسف من أن الأطفال دون سن الثامنة لا يزالون معرضين للخطر في جميع أنحاء العالم من التجنيد غير القانوني، من قبل القوات المسلحة أو العصابات المسلحة على الرغم من الاتفاق التاريخي قبل 15 عامًا في باريس لمكافحة استخدام الأطفال في النزاع.

تجنيد الأطفال كجريمة حرب

يعد تجنيد الأطفال أحد الانتهاكات الجسيمة بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكول الاختياري الملحق بها، الذي يحظر اشتراك من هم دون 18 عامًا في النزاعات المسلحة، كما يعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تجنيد الأطفال دون 15 سنة جريمة حرب.

تاريخيًا، عانت كولومبيا من ظاهرة التجنيد طوال فترة النزاع الممتد لعقود، وقدّرت لجنة الحقيقة أن ما بين 27 ألفًا و40 ألف طفل وقعوا ضحايا للتجنيد بين عامي 1990 و2017.

الاتفاق الموقع عام 2016 بين الحكومة وحركة فارك المسلحة خفف من حدة الظاهرة، لكن الانقسامات الداخلية وظهور جماعات جديدة أفرزت تحديات إضافية.

الوضع الحالي يتطلب أكثر من جهود فردية أو بيانات إعلامية حيث تؤكد منظمات حقوق الإنسان أن هناك حاجة إلى استجابة شاملة تبدأ من التعليم، مرورًا بالعدالة، وصولًا إلى تنظيم الفضاء الرقمي الذي بات بوابة مفتوحة لتجنيد الأطفال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية