بين السياسة والعدالة.. كيف تقوّض التعديلات الأمريكية مصداقية تقارير حقوق الإنسان؟

بين السياسة والعدالة.. كيف تقوّض التعديلات الأمريكية مصداقية تقارير حقوق الإنسان؟
وزارة الخارجية الأمريكية

 

منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، شكّلت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية السنوية حول ممارسات حقوق الإنسان مرآة دولية لرصد أوضاع الحقوق والحريات حول العالم، على مدى عقود، اعتمدت عليها حكومات، منظمات دولية، ومحاكم لجوء، ومؤسسات بحثية وإعلامية، وحتى الكونغرس الأمريكي نفسه في رسم سياسات المساعدات، والضغط الدبلوماسي، ودعم الحريات.

لكن، وفي خضم التحولات الجذرية التي أحدثتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، تحوّلت هذه التقارير، التي لطالما مثلت أحد أدوات القوة الناعمة الأمريكية، إلى موضوع نزاع سياسي وأخلاقي، بعدما قامت الإدارة بحذف ممنهج وتعديلات انتقائية ذات دوافع سياسية، بحسب ما أكده مسؤولون سابقون ومنظمات حقوقية دولية.

"جسور بوست" في هذا التقرير توضح أن هذا التحوّل يُثير أسئلة جوهرية.. ماذا يعني التلاعب بأحد أهم السجلات الحقوقية العالمية؟ وكيف ينعكس ذلك على مصداقية الولايات المتحدة في ملف حقوق الإنسان عالميًا؟

استبعاد انتقائي.. هل هو تشويه مقصود للحقائق؟

بحسب ما ذكرته منظمة "حقوق الإنسان أولًا" (Human Rights First) الجمعة في بيان، أقدمت إدارة ترامب على إجراء تخفيضات واسعة النطاق ومراجعات سياسية الطابع على محتوى تقارير وزارة الخارجية. فتمّ حذف معايير مركزية مثل ما إذا كانت الدول تُجري انتخابات حرة ونزيهة، أو تحترم الحريات الأساسية، أو تمارس الفساد، أو ترتكب انتهاكات ممنهجة ضد الأقليات والنساء وذوي الإعاقة واللاجئين.

وقد طالت هذه التعديلات دولًا بعينها مثل السلفادور وروسيا وإسرائيل، حيث أشارت تقارير إعلامية إلى تشويه الوقائع بشكل يرضي التوجهات السياسية للإدارة، ويعكس تحيزات واضحة في تقييم الانتهاكات.

تقول عزرا زيا، المديرة التنفيذية لمنظمة "حقوق الإنسان أولًا"، إن هذه الممارسات تقوض هدف التقارير الأصلي الذي حظي طويلاً بدعم الحزبين، أي تقديم تقييم "موضوعي وعادل" لوضع حقوق الإنسان عالميًا، وأضافت: "التقارير المعدلة أصبحت لا تعكس الواقع، وبالتالي لم تعد أداة موثوقة لصنّاع القرار ولا للمجتمع الدولي".

انعكاسات على السياسة الخارجية الأمريكية

تُعدّ تقارير حقوق الإنسان مصدرًا رئيسيًا تعتمد عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تحديد مساعدات الدول وتقديم الدعم السياسي أو الضغط الدبلوماسي. ولذلك، فإن تشويه هذه الوثائق يحوّلها من أدوات للضغط الأخلاقي إلى وسائل تبريرية للنفوذ السياسي، ويضعف موقف الولايات المتحدة في الدفاع عن الديمقراطية والعدالة عالميًا.

منذ تأسيس هذه التقارير، لعبت دورًا محوريًا في قضايا اللجوء واللاجئين، وكانت مرجعًا أساسياً في تقييم طلبات الحماية الإنسانية، وأي تشويه أو حذف متعمّد للمعلومات يُعرض آلاف طالبي اللجوء لرفض طلباتهم بناءً على تقارير ناقصة أو غير دقيقة.

يؤكد الخبير الحقوقي جيفري فوغت من شبكة المحامين الدوليين لمساعدة العمال (ILAW): "التقارير المعدلة لا تخدم إلا إخفاء الانتهاكات وغض الطرف عن قمع الأنظمة الحليفة، ما يُفقد واشنطن أوراق الضغط الأخلاقي التي طالما تباهت بها".

مطالبات باستعادة المصداقية

في مواجهة هذا الانحراف الخطير، خرجت منظمات محلية ودولية عن صمتها، فأصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بيانًا انتقدت فيه "التسييس المفرط" للتقارير، بينما حذّرت "منظمة العفو الدولية" من فقدان ثقة المجتمع الدولي في أي جهود حقوقية صادرة عن الولايات المتحدة.

من جهتها، طالبت منظمة "حقوق الإنسان أولاً" الكونغرس بإصدار تشريعات تُجبر وزارة الخارجية الأمريكية على استعادة المعلومات المحذوفة، وإخضاع التقارير لمراجعة مستقلة تضمن النزاهة والشفافية.

القانون الدولي.. إخفاء الانتهاكات جريمة في حد ذاتها

وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، لا يجوز لأي جهة حكومية إخفاء أو التستر على الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، خاصة حين يتعلق الأمر بتقارير رسمية تُستخدم دوليًا كمرجعية، وتُعدّ محاولة تبييض انتهاكات أو إنكارها انتهاكًا بحد ذاته لالتزامات الدولة تجاه القانون الدولي.

تقول لويز أربور، المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة: "إن محاولة استخدام تقارير حقوق الإنسان كسلاح سياسي يفقدها مصداقيتها، ويدفع ثمنها الضحايا الحقيقيون في كل أنحاء العالم".

إحصاءات ودلالات: ما وراء الأرقام

حتى عام 2016، كانت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية تغطي أكثر من 200 دولة ومنطقة، وتفصل الانتهاكات ضد الصحفيين، النساء، الأقليات العرقية، والسجناء السياسيين، إضافة إلى رصد الانتخابات المزورة وممارسات الفساد وغيرها من قضايا حقوقية.

لكن في تقرير عام 2018، تم حذف فقرات كاملة تتعلق بالمساواة الجندرية والعنف ضد المرأة، واختفى أي ذكر لانتهاكات تتعلق بمجتمع الميم في عدة دول معروفة تاريخيًا بهذه الانتهاكات، وهو ما وصفه خبراء بـ"محاولة ممنهجة لطمس الحقائق".

من جيمي كارتر إلى ترامب

بدأت الولايات المتحدة إصدار هذه التقارير عام 1977 خلال إدارة جيمي كارتر، الذي تبنى حينها حقوق الإنسان كأحد ركائز السياسة الخارجية، واستمرت التقارير، رغم تعاقب الإدارات، في تقديم تقييمات مستقلة نسبيًا، حتى جاءت إدارة ترامب لتُحدث تحولًا غير مسبوق في نهج إعدادها.

هذا التحول لا يقتصر على محتوى التقارير، بل طال فلسفتها أيضًا، ففي حين كانت تعتبر الحقوق والحريات قيمة عالمية وواجبًا أخلاقيًا، باتت اليوم، وفقًا للنقاد، أداة انتقائية تستخدم لخدمة التحالفات السياسية والصفقات الاقتصادية.

من الشفافية إلى التضليل

بحسب مراقبين فما قامت به إدارة ترامب من تعديلات جوهرية على تقارير وزارة الخارجية حول حقوق الإنسان لا يُعدّ مجرد مراجعة بيروقراطية، بل هو إعادة صياغة لمنظور واشنطن تجاه العدالة العالمية، منبهين في الوقت نفسه إلى أنه في عالم تُنتهك فيه الحقوق يوميًا، وفي ظل صعود النزعات الاستبدادية، لا يمكن للعالم أن يتحمل فقدان أحد أهم المراجع الدولية في توثيق الانتهاكات، والأخطر من ذلك أن غياب المصداقية والشفافية يُرسل رسالة قاتمة بأن المصالح السياسية قد تُبرر طمس الحقائق، حتى لو كان الثمن كرامة الإنسان، مؤكدين أنه بات لزامًا اليوم على الكونغرس والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية حول العالم أن يُطالبوا باستعادة استقلالية هذه التقارير، وتجريدها من الانحياز السياسي، لأن الحق في الحقيقة هو أول حقوق الإنسان.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية