في يومهم الدولي.. نداء عالمي لضمان العدالة الرقمية للشعوب الأصلية
يحتفل به 9 أغسطس من كل عام
في التاسع من أغسطس كل عام، يتجدد على أجندة الأمم المتحدة موعد مع أحد أكثر الملفات الإنسانية والثقافية تعقيدًا وعمقًا هو ملف الشعوب الأصلية، هذا اليوم الدولي، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1994 تخليدًا لأول اجتماع لمجموعة العمل المعنية بالسكان الأصليين عام 1982.
وبات يوم الشعوب الأصلية مناسبة عالمية لتسليط الضوء على قضايا أكثر من 476 مليون إنسان، يشكلون أقل من 6% من سكان الأرض، لكنهم في الوقت نفسه يمثلون أكثر من 15% من أفقر فئات العالم، إنهم أبناء أكثر من 5 آلاف ثقافة حية، حاملة جزءاً هائلاً من التراث الإنساني، ومتحدثة بالغالبية العظمى من لغات العالم التي تصل إلى نحو سبعة آلاف، أربعون في المئة منها على حافة الانقراض.
وجاء عام 2025 تحت شعار مختلف ومثير للتساؤل؛ "الشعوب الأصلية والذكاء الاصطناعي: صون الحقوق، وبناء المستقبل"، هذا الشعار يعكس تحوّلًا في بوصلة الاهتمام الأممي، حيث لم تعد التحديات محصورة في حماية الأراضي أو مواجهة التهميش، بل امتدت إلى حدود الفضاء الرقمي وأدوات الذكاء الاصطناعي التي تقتحم حياة البشر جميعًا، بما في ذلك المجتمعات الأصلية.
مشاركة الشعوب الأصلية
حذّرت الأمم المتحدة صراحة من أن نماذج الذكاء الاصطناعي التي تُطور دون مشاركة هذه الشعوب قد تعيد إنتاج الصور النمطية عنها، أو تُقصي روايتها عن التاريخ، أو تحرّف ثقافتها.
عُقد الاحتفال الرسمي هذا العام افتراضيًا في الثامن من أغسطس، بتنظيم من إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، وشمل كلمات افتتاحية لرئيس المنتدى الدائم لقضايا الشعوب الأصلية، وحلقة نقاش جمعت خبراء وتقنيين وممثلين عن مجتمعات أصلية، مع توفير الترجمة باللغتين الإنجليزية والإسبانية.
وكان واضحًا أن الحوار لا يدور حول التقنية كأنها مجرد أداة، بل حول من يملك السيطرة عليها، ومن يضع القواعد، ومن يضمن أن تستخدم لمصلحة حماية المعارف التقليدية لا لانتزاعها.
وفي هذا السياق، كانت هناك أمثلة حية أوردتها المنصات الأممية، مثلا: في جزر بولينيزيا، تتكامل الآن تقنيات الذكاء الاصطناعي مع خبرات السكان المحليين في مراقبة صحة الشعاب المرجانية، باعتبارها جزءًا من هويتهم البيئية والثقافية.
وفي أراضي الإنويت بالقطب الشمالي، تُطوّر نماذج رقمية مبنية على المعرفة المحلية للتكيف مع تغير المناخ الذي يهدد نمط حياتهم، أما في نيوزيلندا، فقد ساعدت أدوات معالجة اللغة الطبيعية على إعادة إحياء اللغة الماورية، وفتح مساحات جديدة لتعليمها وتداولها بين الأجيال.
مراكز بيانات ضخمة
الصورة ليست وردية بالكامل، فهناك تقارير أخرى نبّهت إلى أن إقامة مراكز بيانات ضخمة بالقرب من أراضي السكان الأصليين قد تؤدي إلى استنزاف مواردهم المائية والطاقة، ناهيك عن أخطار النفايات الإلكترونية، وهذه قضية جديدة نسبيًا، تتقاطع مع المخاوف البيئية والحقوقية التقليدية لهذه المجتمعات.
ومن جانبها، أكدت أمانة اتفاقية التنوع البيولوجي أن الشعوب الأصلية ليست فقط حاملة لتراث ثقافي، بل هي أيضًا حامية للتنوع البيولوجي، وأن أدوات الذكاء الاصطناعي، إذا وُظفت بمسؤولية، يمكن أن تكون عونًا في تنفيذ الأهداف العالمية الجديدة للبيئة، لكن ذلك مشروط بمبادئ أساسية، أبرزها الحصول على الموافقة الحرة والمسبقة من المجتمعات الأصلية، واحترام سيادة بياناتهم ومعارفهم، وتجنب أي استغلال تجاري أو ثقافي لا يضع مصلحتهم في المقدمة.
وذهب البرلمانيون المنضوون في منظمة "العمل العالمي" في الاتجاه نفسه، مؤكدين أن إحياء اللغات وحماية الثقافة عبر التكنولوجيا لن يكون ذا معنى إذا لم يكن للشعوب الأصلية صوت في كل مرحلة من مراحل صنع القرار، من وضع الخوارزميات إلى تحديد كيفية استخدام البيانات.
وكانت الرسالة التي كرروها واضحة: الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة تحرر، أو أداة هيمنة جديدة، والفرق بين الخيارين تحدده المشاركة الفعلية والاحترام المتبادل.
مساحة لتجديد النقاش
هذا اليوم، في جوهره، ليس احتفالًا رمزيًا فحسب، بل هو مساحة لتجديد النقاش العالمي حول حق هذه الشعوب في أن تكون شريكًا في رسم ملامح المستقبل، لا مجرد موضوع في تقرير أو مشروع تقني، في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية بوتيرة غير مسبوقة، يصبح السؤال: كيف نحافظ على الحكمة القديمة في مواجهة العقول الاصطناعية الجديدة؟
الجواب، كما خلصت إليه الفعاليات والبيانات، يبدأ بالاعتراف بأن العدالة الرقمية جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية، وأن حماية الثقافة والمعرفة واللغة من الانقراض لا تنفصل عن حماية الأرض والموارد والحق في تقرير المصير.
اليوم الدولي للشعوب الأصلية لعام 2025 ليس إذن مجرد ذكرى، بل هو نداء مفتوح للعالم كي لا يترك هذه المجتمعات على هامش الثورة التكنولوجية، بل في قلبها، شريكة في صنع مستقبل يتسع للجميع.