بطالة وبنية مدمرة وحقوق هشة.. ماذا ينتظر السوريين العائدين؟
بطالة وبنية مدمرة وحقوق هشة.. ماذا ينتظر السوريين العائدين؟
شهدت الأشهر التي تلت سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في ديسمبر 2024 حركة واسعة من العائدين إلى سوريا من دول الجوار، تراوح دوافعها بين الحنين والرغبة في استعادة الاستقرار وبين ضغوط اقتصادية وسياسات وطنية في بلدان اللجوء، لكن عودة مئات الآلاف تضع أمامهم واقعاً يومياً شديد القسوة بين بيوت مهدمة، اقتصـاد شبه مشلول، فرص عمل نادرة، ومخاوف أمنية وحقوقية تقلب آمال العودة إلى إحساس متصاعد بعدم الأمان.
الأرقام الرسمية المتاحة من المفوضية ولجان الأمم المتحدة تُظهر أن نحو 720 ألف سوري عادوا من دول الجوار منذ 8 ديسمبر 2024، وهو رقم يمثل عملية ضخمة على مستوى المنطقة ويتطلب استجابة عاجلة ومتناسقة. وفق بيانات "ريليف ويب".
أرقام وتباين المعطيات
الأرقام الرسمية متباينة بين مصادر دولية ومحلية فالمفوضية تُقدّر العائدين من دول الجوار بنحو 719,801 شخص حتى نهاية يوليو، في حين تسجل السلطات التركية وغيرها من الدول أرقاماً متفاوتة للعائدين من أراضيها، ما يعكس ديناميكية سريعة وحساسية إجرائية في تسجيل الحركات، وهذا التباين نفسه يعكس ضبابية أوسع في فهم ما إذا كانت العودة طوعية بالكامل أو نتيجة ضغوط قانونية واجتماعية في بلدان اللجوء.
الاقتصاد السوري يواجه تحديات عميقة: سنوات طويلة من الحرب دمرت المصانع والقطاع الزراعي وشلّت شبكات النقل والكهرباء، في حين يعاني البلد ركوداً وارتفاعاً حاداً في أسعار السلع الأساسية.
وتشير تقارير اقتصادية دولية إلى توقعات نمو ضعيفة للاقتصاد السوري في 2025 مع قيود على السيولة وقروض دولية محدودة، في وقت تتزايد فيه احتياجات السكان الأساسية، فهناك أكثر من 16 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، ونسبة كبيرة من الأسر تعتمد على شكل من أشكال المعونة للبقاء، وهذا الواقع يتحول إلى عقبة مباشرة أمام اندماج العائدين اقتصادياً ويجعل سوق العمل غير قادر على استيعاب أعداد كبيرة بسرعة وفق البنك الدولي.
سوق العمل والبطالة
ملايين السوريين قبل الحرب اعتمدوا على أعمال موسمية وصناعات محلية صغيرة، ولكن اليوم تلك المنظومة تمزقها البطالة والتضخم، ومعدلات البطالة الحقيقية مرتفعة، وخاصة بين الشباب والنازحين داخلياً والعائدين حديثاً الذين يفتقرون إلى مدخرات أو شبكات اجتماعية مستقرة كما لا تزال برامج دعم كسب العيش محدودة في التمويل والتغطية، ولا توفر فرصاً كافية لإعادة بناء سبل معيشة مستدامة، ويزيد غياب الاستثمار الخارجي وقيود تمويل إعادة الإعمار من مخاطر بقاء فئات واسعة في حلقة من الفقر المزمن.
جانب آخر من أزمة العائدين هو البعد الأمني والحقوقي. تقارير حقوقية أممية ومحلية توثق موجات عنف وطرد ونهب وعمليات اعتقال تعسفية في مناطق عدة، بالإضافة إلى حوادث طائفية واشتباكات أدت إلى نزوح داخلي متجدد في محافظات مثل السويداء ومناطق الساحل، ما يجعل العودة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأقليات أو لأشخاص مرتبطين بالنظام السابق، مؤسسات حقوقية دولية دقّت ناقوس الخطر حول حالات القتل والاعتداءات الواسعة التي رافقت تصاعد التوترات، ما يضع قضية الحماية أولوية لا تحتمل التأجيل بحسب "هيومن رايتس ووتش".
الخدمات والبنية التحتية
العودة إلى منزل دون مياه نظيفة أو شبكة كهرباء موثوقة أو مدرسة أو مستشفى تعني أن الحياة الطبيعية تبقى بعيدة، فإصلاح البنية التحتية يتطلب وقتاً وموارد ضخمة، وكثير من العائدين يجدون أن المنزل إذا لم يكن مدمراً كلياً فإنه غير صالح للسكن، أو أنه يحتاج إلى إصلاحات مرتفعة التكاليف، فيما شبكة الحماية الاجتماعية الوطنية ضعيفة، والبرامج الأممية والمنظمات غير الحكومية التي تقدم مساعدات مؤقتة تواجه نقص تمويل وتحديات لوجستية.
القانون الدولي ومواثيق حماية اللاجئين يؤكدان أن العودة يجب أن تكون طوعية وآمنة وكريمة، وأن مبدأ المنع من الإعادة القسرية (non-refoulement) يظل قيد التطبيق، وقد أكدت المفوضية موقفها الداعم لعودة طوعية ومحضّرة، وحذّرت من تصنيف سوريا بأنها "آمنة" بطريقة تُجبر الناس على العودة أو تحرمهم من حق اللجوء، وهذا الإطار القانوني يضع مسؤولية مشتركة على الدول المضيفة والأمم المتحدة والمجتمع الدولي لضمان معايير الحماية قبل وأثناء وبعد عمليات العودة.
المفوضية وبرامج الأمم المتحدة وضعت مخططات لدعم مئات الآلاف من العائدين، لكن التمويل المتوفر أقل بكثير من المطلوب. وعلى سبيل المثال، برامج محددة لتمكين العودة الآمنة تحتاج مئات الملايين من الدولارات، في حين أن التمويل المعلن لا يغطي سوى جزء بسيط من هذه المتطلبات، ما يهدد استدامة أي خطة وطنية لإعادة الإعمار والاندماج.
توصيات حقوقية وأممية
عودة مئات الآلاف من النازحين السوريين مؤشر مهم على تحول سياسي وإقليمي، لكنه ليس حلّاً للمأساة الإنسانية والاقتصادية، لتكون العودة ناجحة ومستدامة يجب ضمان حماية قانونية صارمة للعائدين وحظر أي ترحيل قسري أو ضغوط تشجع على العودة غير الطوعية، إلى جانب تعبئة تمويل دولي عاجل لإصلاح السكن والخدمات وتأمين برامج صغر المشاريع والتدريب المهني لامتصاص البطالة، وكذلك دعم جهود حفظ الأمن وسيادة القانون ومحاسبة الانتهاكات لضمان أمن الأقليات والعودة الآمنة، إضافة إلى تنسيق إقليمي بين دول الجوار والمنظمات الدولية لتأمين عمليات إعادة الإعمار والبنى التحتية الحيوية، مع إشراك المجتمعات المحلية في تخطيط التعافي.
الحرب السورية التي اندلعت عام 2011 أدت إلى موجات نزوح كبيرة داخل البلاد وخارجها، وأحدث سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 زلزالاً سياسياً فتح نافذة للعودة، لكن سنوات الصراع والدمار والفوضى الأمنية خلّفت اقتصاداً هشّاً وبنية تحتية مدمرة وشرخاً اجتماعياً عميقاً، الانتقال من مرحلة الطوارئ إلى مرحلة التعافي يتطلب وقتاً وبرامجاً اقتصادية واجتماعية متكاملة وشفافية في إدارة الموارد وإشراك المجتمع الدولي بمسؤولية.