نزيف مستمر.. من يحمي أرواح السوريين من رصاص الانفلات الأمني؟
نزيف مستمر.. من يحمي أرواح السوريين من رصاص الانفلات الأمني؟
رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الأزمة السورية، لا يزال الدم السوري يُراق يوميًا في ظل غياب الاستقرار، واستمرار الفوضى الأمنية، وتعدد أطراف الصراع، وتقاعس المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية، ومع كل يوم جديد، تتوسع دائرة الألم، ويتساقط مزيد من الضحايا بصمت.
حصيلة متكررة للموت: 17 قتيلًا في 48 ساعة فقط
تقرير حديث أصدره المرصد السوري لحقوق الإنسان اليوم الخميس، أوضح أنه خلال الأيام الأولى من شهر أغسطس الجاري، وثّق المرصد مقتل 17 شخصًا خلال 48 ساعة فقط، في مشهد يعكس استمرار الانفلات الأمني وتزايد الجرائم المنفذة في ظروف غامضة أو عن سبق إصرار، في سوريا، وقد توزعت هذه الحصيلة المروعة على الشكل التالي:
في 5 أغسطس، قتل 10 أشخاص، من بينهم 5 مدنيين قضوا بعمليات تصفية انتقامية، بينهم طفلان، إضافة إلى متعاونين مع النظام السابق، واثنان من المدنيين في جرائم جنائية منفصلة، ومدني برصاص عشوائي، إضافة إلى اثنين أحدهما عنصر أمن والآخر مسلح، في هجوم استهدف حاجزًا عسكريًا.
في 6 أغسطس، قتل 7 أشخاص، بينهم اثنان في جرائم جنائية، وطفل قضى بانفجار من مخلفات الحرب، واثنان آخران بعمليات تصفية، واثنان من قوات سوريا الديمقراطية في هجمات نفذها تنظيم داعش الإرهابي.
هذا التوثيق الميداني اليومي يؤكد أن الدم السوري لم يعد يُراق فقط في ساحات القتال، بل بات ضحيةً لانهيار كامل في البنية الأمنية، وانتشار السلاح، وثقافة الإفلات من العقاب.
تعدد مصادر العنف
سوريا اليوم تشهد تداخلاً معقدًا بين أنواع العنف، فإلى جانب العمليات العسكرية التقليدية، برزت أنواع جديدة أكثر خطورة وتشتتًا: جرائم القتل الجنائي، التي تتزايد في ظل غياب مؤسسات الدولة وضعف السلطة القضائية، والتصفيات الانتقامية، التي تعكس استمرار حالة التشفي والنزاعات السياسية أو المناطقية أو العشائرية، والهجمات المسلحة من خلايا نائمة لتنظيم (داعش)، رغم الإعلان عن هزيمته، وانفجارات الألغام ومخلفات الحرب، التي تحصد أرواح المدنيين، خاصة الأطفال، في غياب برامج إزالة فعالة.
المشكلة الأعمق أن أغلب هذه الجرائم تُنفذ دون تحقيقات شفافة، أو محاسبة فعلية، ما يكرس ثقافة الإفلات من العقاب.
بلد مكسور وجيل جديد يتيه في الرعب
تجاوزت أعداد الضحايا منذ بدء النزاع حاجز 500 ألف قتيل، وفق تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية، في ما تشير تقديرات غير رسمية إلى أعداد أكبر بكثير، وتُقدر أعداد المعتقلين والمختفين قسريًا بأكثر من 100 ألف شخص، فيما نزح أكثر من 13 مليون سوري داخليًا وخارجيًا.
يولد الأطفال في سوريا اليوم في بيئة لا تشبه الأوطان، بل تشبه معتقلًا كبيرًا أو ساحة حربٍ دائمة. جيل كامل نشأ وسط أصوات القصف والرصاص والدمار، دون تعليم آمن أو نظام صحي أو أفق اقتصادي، في ظل حرمان متزايد من حقوقه الأساسية.
موقف المنظمات الحقوقية
المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يعد من أبرز مصادر التوثيق المستقلة، جدّد دعوته للمجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية والإنسانية، مؤكدًا ضرورة وقف الانتهاكات المباشرة ضد المدنيين، ووضع حد للاغتيالات والتصفيات الانتقامية، والإسراع في إزالة مخلفات الحرب، وضمان المساءلة ومحاسبة الجناة.
من جانبها، دعت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي إلى "تفعيل آليات المساءلة الدولية" بشأن الانتهاكات في سوريا، مشيرة إلى استخدام القانون الجنائي كأداة قمع، واعتقال النشطاء السلميين، فضلًا عن استمرار الاعتقال التعسفي والتعذيب في مراكز الاحتجاز.
أما هيومن رايتس ووتش، فاتهمت أطراف النزاع، بما في ذلك النظام السوري، والجماعات المسلحة، والقوات الأجنبية، بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية"، مطالبة بتفعيل الولاية القضائية العالمية لمحاسبة المسؤولين.
القانون الدولي.. حق الحياة بين الورق والواقع
تنص المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن "الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان"، وأن "لا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفًا" ومع ذلك، فإن الأرقام الموثقة في سوريا تُعد انتهاكًا جماعيًا لهذا النص القانوني.
كما أن قواعد القانون الإنساني الدولي، و"اتفاقيات جنيف"، تحظر استهداف المدنيين أثناء النزاعات، وتُلزم الأطراف بحمايتهم. ومع ذلك، لا يزال المدنيون في سوريا هدفًا مباشرًا للقتل، سواء في عمليات قصف، أو اغتيال، أو إهمال منهجي.
وبحسب لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، فإن الانتهاكات باتت "ممنهجة"، ما يعني أن كثيرًا منها يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
كيف وصل السوريون إلى هذا المشهد الدموي؟
بدأت الأزمة في مارس 2011 كمطالب سلمية بالإصلاح السياسي، لكنها تحولت إلى صراع مسلح مع تدخل أطراف محلية وإقليمية ودولية، وتشكلت خريطة معقدة من القوى تنوعت بين: النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران، وفصائل معارضة مسلحة، وقوات سوريا الديمقراطية بدعم أمريكي، وتنظيمات متطرفة مثل داعش وجبهة النصرة، وقوات تركية ومليشيات أجنبية.
أمام هذا المشهد السوداوي، تؤكد المنظمات الحقوقية أن الحاجة ستبقى ماسة إلى إعادة تمركز الجهود السياسية والإنسانية حول الإنسان السوري، الضحية الأولى والأخيرة، لا سياسة أو تسوية يمكنها أن تكتسب شرعية ما لم تبدأ من الاعتراف بالضحايا، وتحقيق العدالة، وضمان الحماية، وإعادة بناء ثقة السوريين بوطنهم ومؤسساته.