استغاثة ديمغرافية.. تراجع المواليد في اليونان يغلق المدارس ويمهّد لمجتمع رمادي

استغاثة ديمغرافية.. تراجع المواليد في اليونان يغلق المدارس ويمهّد لمجتمع رمادي
الأزمة الديمغرافية تؤثر على التعليم في اليونان

تبدأ القصة من قاعات الصف الأول الابتدائي، المرآة التي تكشف حجم الأزمة السكانية التي تعصف باليونان، في عام 2010، التحق بالصف الأول 115 ألف طفل، أما في سبتمبر 2025 فلن يتجاوز عدد الملتحقين 71181 طفلًا، هذا التراجع الحاد لا يُترجم فقط إلى 44 ألف مقعد مدرسي فارغ، بل يعني عمليًا اختفاء 1760 فصلًا دراسيًا كاملًا كان يمكن أن يضم 25 تلميذًا في كل واحد.

وصفت صحيفة "بروتو ثيما" اليونانية، الوضع بأنه "استغاثة ديموغرافية"، مؤكدة أن هذه الفئة من طلاب الصف الأول –الأصغر عددًا في تاريخ اليونان الحديث– تمثل وجهًا صارخًا للمشكلة السكانية.

وبينما سُجّلت في عام 2019 نحو 83,756 حالة ولادة، لم يصل منهم إلى الصف الأول سوى 71181 طفلًا، وهذا يعني أن 12،575 طفلًا قد فُقدوا من سجل التعليم الأساسي بين مكتب التسجيل ومنصة التسجيل الإلكترونية، أي بنسبة تسرب تصل إلى 15%.

انهيار متوقع

تُحذر "بروتو ثيما" من أن الآفاق المستقبلية أكثر قتامة، فبحلول عامي 2030 و2031، قد لا يتجاوز عدد طلاب الصف الأول الابتدائي 60 ألف، خصوصًا أن عدد المواليد في عام 2024 لم يتجاوز 69675 مولودًا.

لا تترك الأرقام هنا مجالًا للتأويل: بين عامي 2008 و2024، انخفض عدد المواليد بنسبة 41.1%، وبين عامي 2010 و2024 انخفض بنسبة 39.28%.

ويُظهر الاتجاه بوضوح أن عدد السكان في سن الإنجاب آخذ في الانكماش، بينما تتسع الفجوة لصالح الفئات العمرية الأكبر سنًا، بين عامي 2011 و2021، ارتفع عدد الأشخاص فوق 80 عامًا بنسبة 31.3%، وزادت الفئة العمرية 60–69 بنسبة 16.8%، في حين تراجعت الفئة العمرية 20–29 بنسبة 22%، والفئة 30–39 بنسبة 23.2%.

هذا التحول الديموغرافي العميق انعكس مباشرة على التعليم، فوفقًا لبيانات وزارة التعليم التي أوردتها صحيفة "إي كاثيميريني"، اليونانية، فإن العام الدراسي 2025-2026 سيشهد وجود مليون و210 آلاف طالب فقط في التعليم الابتدائي والثانوي والتعليم المهني، أي أقل بأكثر من 150 ألف طالب مقارنة بالعام الدراسي 2018-2019، حيث كان العدد مليوناً و363912 طالبًا.

إغلاق المدارس

من جانبها كشفت "فايننشيال تايمز" في تقرير لها اليوم الثلاثاء أن اليونان ستُعلّق الدراسة في أكثر من 750 مدرسة مع بداية العام الدراسي الجديد، وهو ما يمثل 5% من إجمالي المدارس في البلاد، الأمر لم يعد مقتصرًا على القرى النائية أو الجزر البعيدة، بل وصل إلى منطقة أتيكا التي تضم العاصمة أثينا.

وتكشف بيانات وزارة التعليم أن عدد طلاب التعليم الابتدائي قد انخفض بمقدار 111 ألف طالب خلال سبع سنوات فقط، أي بنسبة 19% منذ عام 2018، هذا التراجع أدى إلى إغلاق 766 مدرسة من أصل 14857 مدرسة، لفشلها في استيفاء الحد الأدنى القانوني البالغ 15 طالبًا.

ورغم أن بعض المدارس قد تُفتح مجددًا خلال ثلاث سنوات إذا ارتفع عدد الطلاب، فإن معظمها يظل مغلقًا نهائيًا.

وفي رواية أخرى قدمتها "إي كاثيميريني، يظهر حجم الكارثة بجلاء: في العام الدراسي المقبل سيتم تعليق الدراسة في 721 مدرسة من أصل 13478 مدرسة بسبب انخفاض أعداد الطلاب، أغلب هذه المؤسسات من التعليم الابتدائي، وهو المستوى الأكثر تأثرًا بالأزمة.

المدارس الابتدائية الموقوفة

تكشف البيانات عن اتجاه واضح، ففي العام الدراسي 2018-2019، كان عدد المدارس الابتدائية الموقوفة عن العمل 247، وروضات الأطفال 312، أما في العام الدراسي 2025-2026 فسيرتفع الرقم إلى 324 مدرسة ابتدائية و358 روضة أطفال.

يفرض إغلاق المدارس أعباء إضافية على الأطفال والأسر، خصوصًا في المناطق الريفية، حيث تشير الصحف إلى أن بعض الأطفال قد يضطرون إلى قطع مسافات تصل إلى 80 كيلومترًا يوميًا للوصول إلى مدارسهم الجديدة.

في المقابل، تسجل بعض الاستثناءات الطريفة، ففي جزيرة بسيريموس، ستُفتتح المدرسة لأول مرة منذ عام 2009 لتخدم طفلين فقط في المرحلة الابتدائية وثلاثة أطفال في الروضة.

توازن مفقود

لا يمكن فصل أزمة التعليم عن التغيرات السكانية الأوسع، ففي عام 2024، سُجلت 69675 حالة ولادة، مقابل 128259 حالة وفاة، أي أن هناك مولودًا واحدًا مقابل 1.8 حالة وفاة، هذا التوازن الطبيعي السلبي مستمر منذ عام 2011، وكان عام 2010 آخر عام تفوق فيه المواليد على الوفيات، إذ سُجل آنذاك 114766 مولودًا مقابل 109084 وفاة.

وبين عامي 2001 و2021، انخفض عدد النساء في الفئة العمرية الأساسية للإنجاب (20–40 عامًا) بمقدار 500 ألف، أي بنسبة 31%، إلى جانب ذلك أدت أزمة الديون وهجرة الكفاءات إلى الخارج إلى تفريغ الداخل من شريحة مهمة من الآباء المحتملين.

رغم الصورة القاتمة، تحمل بعض الأرقام ملامح مزدوجة، فوفق "بروتو ثيما"، لا تزال نسبة الطلاب إلى المعلمين في اليونان من بين الأفضل في الاتحاد الأوروبي: 8.2 تلميذ لكل معلم في المدارس الابتدائية، مقارنة بـ13.4 في المتوسط الأوروبي، وبعيدًا عن المعدلات المرتفعة مثل 18.4 في رومانيا، لكن هذه النسبة الإيجابية ليست نتاج سياسة تعليمية فعالة، بل نتيجة مباشرة لانخفاض عدد الأطفال.

محاولات إنقاذ

أمام هذا المشهد، أعلن رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس مرارًا أن المشكلة الديموغرافية "قنبلة تنهش أساسات الأمة"، وفي نهاية عام 2024، قدمت وزيرة الأسرة والتماسك الاجتماعي آنذاك –صوفيا زاخاراكي، التي أصبحت اليوم وزيرة للتعليم- خطة عمل وطنية مدتها عشر سنوات، بميزانية تصل إلى 20 مليار يورو.

الخطة شملت أكثر من 100 إجراء، منها: زيادة بدلات الولادة (بين 2400 و3500 يورو حسب حجم الأسرة)، وقسائم رعاية الأطفال، وبرنامج "مربيات الأحياء"، وإجراءات دعم الإسكان.

لكن التحدي يظل في فاعلية هذه السياسات، فبحسب خبراء نقلت عنهم "فايننشيال تايمز"، فإن الحوافز المالية وحدها قد لا تكفي لعكس الاتجاه، إذ تواجه حتى دول أوروبية غنية مثل السويد والدنمارك صعوبات في رفع معدلات الخصوبة.

كل عام دراسي جديد في اليونان أصبح مرآة دقيقة للأزمة السكانية، انخفاض أعداد طلاب الصف الأول لا يمثل مجرد إحصائية عابرة، بل يُترجم إلى قرى مهددة بالاختفاء، ومدارس تتحول إلى مبانٍ مهجورة، وأطفال يُجبرون على السفر عشرات الكيلومترات يوميًا من أجل حقهم في التعليم.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية