مناخ بلا بيانات وحقوق بلا حماية.. أمريكا تُلغي برنامج الإبلاغ عن الانبعاثات

مناخ بلا بيانات وحقوق بلا حماية.. أمريكا تُلغي برنامج الإبلاغ عن الانبعاثات
إلغاء برنامج الإبلاغ عن الانبعاثات

في خطوة أثارت جدلاً واسعًا داخل الولايات المتحدة وخارجها، أعلنت وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) عن مقترح لإلغاء برنامج الإبلاغ الإلزامي عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، الذي كان يُلزم أكثر من 8000 منشأة صناعية بتقديم بيانات سنوية عن انبعاثاتها.

يفتح القرار، الذي وصفته صحيفة "الغارديان" بأنه "يُبقي الجمهور دون شفافية"، بابًا خطِرًا على الحقوق الأساسية في المعرفة والبيئة الصحية، ويعيد طرح السؤال الجوهري: من يملك الحق في المعلومة البيئية؟ ومن المستفيد من طمسها؟

أشارت الصحيفة البريطانية إلى أن البرنامج، الذي استُحدث خلال إدارة أوباما، كان يهدف إلى تتبع الانبعاثات بدقة من آلاف المنشآت، من محطات الطاقة إلى مصانع الصلب، لكن وكالة حماية البيئة بررت خطوتها الأخيرة باعتبار أن جمع البيانات "غير ضروري"، لأنه لا يرتبط مباشرةً بلوائح محتملة، بل إن مدير الوكالة لي زيلدين ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن البرنامج "مجرد روتين بيروقراطي لا يُحسن جودة الهواء".

يختزل هذا التوصيف، الحق العام في المعلومة في خانة "الإجراءات المرهقة"، متجاهلًا أن تلك البيانات تشكل الأساس لتمكين المجتمع المدني والعلماء من مراقبة التزامات الدولة بمكافحة التغير المناخي.

ولم يأتِ القرار معزولًا، فهو يتكامل مع سلسلة من التراجعات في عهد ترامب، بدءًا من إلغاء "تصنيف الخطر" الذي مكّن الوكالة من تنظيم الانبعاثات، وصولًا إلى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس.

وكما تشير الصحيفة، النتيجة المباشرة، هي إلغاء إلزام معظم المنشآت الكبيرة وموردي الوقود والغاز الصناعي من تقديم بياناتهم، أي إغلاق نافذة كان الجمهور يطل منها على واحدة من أخطر مصادر تهديد الصحة والبيئة.

إلغاء وسيلة التتبع الأساسية

أما صحيفة "واشنطن بوست"، فاعتبرت أن هذا الإجراء يمثل "تراجعًا كبيرًا يُلغي الوسائل الأساسية لتتبع أهداف المناخ"، فمنذ إطلاق البرنامج في 2010، كان أكثر من 8000 منشأة مُطالبة بالإبلاغ عن انبعاثاتها سنويًا، هذه البيانات لم تكن مجرد أرقام، بل أداة لقياس التقدم في خفض الانبعاثات وتحديد المسؤولية.

لكن الوكالة بررت إلغاء البرنامج باعتباره وسيلة لتقليل التكاليف، مقدّرة أن الخطوة ستوفر 2.4 مليار دولار على الشركات، هنا يتضح التضارب الصارخ بين منطق "خفض الأعباء التنظيمية" وبين الحق العام في بيئة نظيفة، فالقرار، كما تنقل الصحيفة، قد يسمح لمحطات الطاقة بزيادة انبعاثاتها "دون علم أحد".

صرح ديفيد دونيجر، المحامي في مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، قائلاً: "ترغب بعض الصناعات في إبقاء هذا الأمر سرًا حتى لا يتمكن الجمهور من معرفة المسؤول ومحاسبته"، إنها إذن معركة حول الحق في الوصول إلى المعلومة، أكثر من كونها جدلًا بيروقراطيًا.

في المقابل، دافع ممثلو الصناعة عن الخطوة، معتبرين أن الإبلاغ يشكل "قائمة أهداف" لتشديد اللوائح لاحقًا،هذا التبرير يُظهر خوفًا واضحًا من المساءلة، لكنه يعكس أيضًا توازنات القوى بين لوبيات الصناعة وحقوق المواطنين في حماية صحتهم وبيئتهم.

ومن جانبها، كشفت صحيفة "بروبوبليكا" الأمريكية، تفاصيل إضافية تُبرز حجم التراجع، فالبرنامج، الذي يوثق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان من كل منشأة، يغطي ما بين 85% و90% من إجمالي الانبعاثات الأمريكية، ومع ذلك، سعت إدارة ترامب إلى تقليصه ليشمل فقط نحو 2300 منشأة، في خطوة وصفتها الصحيفة بأنها "إلغاء متطلبات الإبلاغ عن 40 قطاعًا من أصل 41".

تقليص البرنامج يقوّض المصداقية

نقلت الصحيفة شهادة مؤثرة من البروفيسور إدوارد مايباخ، الذي شبّه القرار بـ"فصل الأجهزة التي تراقب العلامات الحيوية لمريض في حالة حرجة"، كيف يمكن إدارة أزمة المناخ إذا لم يتم رصد ما يفاقمها؟

ولا يتعلق الأمر فقط بالبيئة، بل أيضًا بالشفافية الدولية، إذ تعتمد الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ على تلك البيانات الأمريكية ضمن تقاريرها العالمية، وبالتالي، فإن تقليص البرنامج يقوّض مصداقية الولايات المتحدة أمام شركائها، ويفتح الباب أمام دول أخرى للتنصل من التزاماتها بحجة غياب القدوة الأمريكية.

وفي الوقت ذاته، تشير "بروبوبليكا" إلى أن كثيرًا من الشركات نفسها تستخدم البيانات لأغراض الاستدامة والتقارير أمام المساهمين، بمعنى أن فقدانها سيُضر حتى بالصناعة التي تدّعي أن البرنامج عبء عليها.

في هذا السياق، يصبح السؤال الحقوقي أكثر وضوحًا: هل يجوز للدولة أن تُعلي مصالح الصناعة على حساب الشفافية العامة؟ وهل يمكن الحديث عن التزامات دولية تجاه المناخ في ظل تغييب البيانات؟

والإجابة أنه لا يُمكن فصل هذه القضية عن "الحق في الحياة" و"الحق في الصحة" و"الحق في الوصول إلى المعلومات"، فإلغاء البرنامج يضعف قدرة المواطنين على محاسبة الملوثين، ويضر بالالتزام الدولي للولايات المتحدة في إطار اتفاقية باريس، ويفتح الباب أمام تفاقم انعدام المساواة، إذ أن المجتمعات الأكثر هشاشة ستدفع ثمن التلوث دون أن يكون لها وسيلة لمساءلة المسؤولين عنه.

وكما قالت "بروبوبليكا" فإن وقف جمع البيانات هو كمن يدفن رأسه في الرمال أمام أزمة وجودية تهدد البشرية، أما واشنطن بوست والغارديان فقد أكدتا أن التراجع لا يُمثل فقط خسارة للشفافية، بل تهديدًا مباشرًا لقدرة العالم على تتبع ومحاسبة من يفاقمون أزمة المناخ.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية