بين قرارات العفو واستمرار القمع.. معضلة حقوق الإنسان في بيلاروسيا

بين قرارات العفو واستمرار القمع.. معضلة حقوق الإنسان في بيلاروسيا
احتجاجات ضد القمع

منذ انتخابات أغسطس 2020 التي وُصفت على نطاق واسع بأنها مزورة، تعيش بيلاروسيا واحدة من أعقد أزماتها السياسية والحقوقية، وعلى الرغم من إصدار السلطات قرارات عفو رئاسية في السنوات الأخيرة، لم تتوقف حملة القمع التي تستهدف المعارضين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويكشف هذا التناقض بين العفو الرسمي واستمرار الاعتقالات عن استراتيجية مزدوجة تعتمدها الدولة، تهدف من جهة إلى امتصاص الضغوط الدولية، ومن جهة أخرى إلى إبقاء المجتمع المدني في حالة خوف دائم.

وفق تقرير أوردته "هيومن رايتس ووتش" ترجع جذور الأزمة إلى طريقة تعامل النظام مع احتجاجات صيف 2020، حين خرج مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع رفضاً لنتائج الانتخابات التي أبقت الرئيس ألكسندر لوكاشينكو في الحكم، ومنذ ذلك الحين، اعتُقل الآلاف وحُوكم كثير منهم بتهم تتعلق بالإرهاب أو إثارة الشغب، وعلى الرغم من الإفراج عن مجموعات محدودة من السجناء في إطار العفو أو التسويات السياسية، بقيت آلة الاعتقال تعمل بوتيرة مستمرة، مدفوعة برغبة السلطة في منع أي إعادة تنظيم للمعارضة داخل البلاد.

الإفراج المشروط والنفي القسري

في سبتمبر 2025، أطلقت السلطات سراح مجموعتين من السجناء، الأولى شملت 40 شخصاً أُفرج عنهم بعد وساطة أمريكية، لكن حريتهم كانت مشروطة بترحيلهم إلى ليتوانيا بعيداً عن عائلاتهم، وهذا النفي القسري شكّل انتهاكاً إضافياً لحقوقهم، حيث حُرموا من حقهم في العودة إلى وطنهم. أما المجموعة الثانية التي شملها عفو رئاسي لاحق، فبلغ عددها 25 شخصاً بينهم بعض المدانين بتهم إرهابية، ولا يزال الغموض يكتنف ظروف الإفراج عنهم، وهذه الحالات تثير شكوكاً حول ما إذا كانت سياسة العفو مجرد أداة سياسية لتخفيف الضغوط الدولية من دون تغيير جوهري في النهج القمعي.

لا يزال أكثر من 1180 سجيناً سياسياً رهن الاعتقال وفقاً لمركز حقوق الإنسان "فياسنا"، وتؤكد تقارير متطابقة من منظمات محلية ودولية تعرض هؤلاء لانتهاكات جسيمة، تشمل سوء المعاملة، الحبس الانفرادي المطوّل، الحرمان من الزيارات العائلية، وأحياناً التعذيب النفسي والجسدي، وتركت هذه الانتهاكات آثاراً إنسانية عميقة، ليس فقط على المعتقلين، بل أيضاً على عائلاتهم التي تعيش في ظل الخوف المستمر وانعدام الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

ردود الفعل الحقوقية والدولية

المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، أدانت استمرار الاعتقالات رغم قرارات العفو، مؤكدة أن هذه الخطوات لا تعكس إرادة حقيقية في احترام حقوق الإنسان، كما دعا مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع السجناء السياسيين، مشيراً إلى أن العفو ينبغي ألا يُستخدَم أداة سياسية مشروطة، بل يجب أن يكون جزءاً من عملية إصلاح شاملة.

المجتمع الدولي بدوره أبدى مواقف متباينة، فقد فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على شخصيات وكيانات بيلاروسية بسبب الانتهاكات المستمرة، كما تبنّى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارات متكررة بتمديد ولاية المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان في بيلاروسيا، ما يعكس قلقاً دولياً متزايداً من تفاقم الأزمة.

من منظور القانون الدولي، تمثل الانتهاكات الموثقة خرقاً لالتزامات بيلاروسيا بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يكفل حرية التعبير والتجمع السلمي ويمنع التعذيب والاعتقال التعسفي، استمرار الاعتقالات التعسفية رغم العفو يطرح أسئلة جوهرية حول شرعية النظام، ويؤكد أن استخدام أدوات قانونية مثل العفو لم يُترجم إلى التزام فعلي بالمعايير الدولية.

الإحصاءات والدلالات

وفقاً لتقارير حقوقية، بلغ عدد السجناء السياسيين في بيلاروسيا بعد موجة احتجاجات 2020 أكثر من 1500 شخص في ذروة الأزمة، قبل أن يتراجع تدريجياً مع بعض الإفراجات والعفو المشروط، ليصل اليوم إلى نحو 1184 شخصاً، ورغم الانخفاض العددي النسبي، تشير المنظمات الحقوقية إلى أن السلطات استبدلت الاعتقال الجماعي باستهداف ممنهج للناشطين البارزين والصحفيين ونشطاء المجتمع المدني، ما جعل القمع أكثر انتقائية وأشد قسوة.

تاريخ بيلاروسيا الحديث يكشف نمطاً متكرراً من استخدام القوانين الاستثنائية لقمع المعارضة. فمنذ وصول لوكاشينكو إلى السلطة عام 1994، ارتبطت فترات التوتر السياسي بعمليات اعتقال ومحاكمات سياسية، مع لجوء متكرر إلى قرارات العفو الرئاسية كوسيلة لامتصاص الضغوط الخارجية، إلا أن هذه القرارات لم تترجم في أي وقت إلى إصلاحات مؤسسية تعزز استقلال القضاء أو حرية الإعلام.

تكشف تجربة العفو في بيلاروسيا عن مأزق مزدوج من جهة، تُظهر الدولة استعداداً شكلياً للانفتاح عبر الإفراج عن بعض السجناء، ومن جهة أخرى، تُبقي على بنية قمعية مترسخة تستهدف أي محاولة لإحياء المعارضة الداخلية، وبينما تتباين المواقف الدولية بين العقوبات والدعوات إلى الحوار، يبقى المواطن البيلاروسي العادي، سواء كان سجيناً أو فرداً من عائلته، الضحية المباشرة لغياب الإرادة السياسية في احترام الحقوق الأساسية، واستمرار هذا النهج يُنذر بمزيد من العزلة الدولية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل الشرعية السياسية للنظام، فضلاً على آثار عميقة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية