الحق في المساواة بالأجر.. النساء يدفعن ثمن العودة إلى المكاتب
تراجع المكاسب بعد عقود من التقدم
تبدأ النساء في الولايات المتحدة بخسارة مواقعهن التي استغرقن عقودًا في بنائها، حيث تُظهر تقارير حديثة نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" أن سياسات العودة الإلزامية إلى المكاتب بعد جائحة كوفيد-19 تُعيد فجوة الأجور بين الجنسين إلى الاتساع، لأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي.
وتُشير البيانات الرسمية إلى أن النساء كسبن في عام 2024 نحو 80.9 سنت مقابل كل دولار يكسبه الرجل، بعد أن كانت النسبة 84 سنتًا قبل عامين فقط، هذا التراجع لا يُعد رقمًا اقتصاديًا فحسب، بل هو مؤشر على انحسار الحق في العمل اللائق والمساواة.
تُسجّل الصحيفة الأمريكية أن النساء يتخذن قرارات صعبة، بين البقاء في وظائف مرموقة بظروف غير مرنة أو القبول بوظائف أدنى أجرًا تسمح لهن بالبقاء إلى جوار أسرهن.
تقول كورتني كليمنتس، التي خفّضت راتبها بنحو 30 ألف دولار لتعمل من منزلها في أتلانتا، إنها ستختار البطالة "قبل العودة إلى العمل المكتبي مجددًا".
التمييز الهيكلي
تُظهر البيانات التي جمعتها الصحيفة أن فجوة الأجور اتسعت لعامين متتاليين، بينما ارتفع دخل الرجال بنسبة 3.7% في عام 2024 بعد تعديله وفق التضخم، وظل دخل النساء ثابتًا.
يُفسر الباحثون هذا الاتجاه من خلال مزيج من العوامل: إلزامية العمل من المكاتب، وندرة خدمات رعاية الأطفال بأسعار معقولة، وتحول التركيبة المهنية بعد الجائحة.
ويؤكد معهد أبحاث سياسات المرأة أن النساء العاملات في الشركات التي فرضت الحضور الإجباري للمكاتب تركن وظائفهن بمعدل يزيد ثلاث مرات على الرجال.
وانتقلت كثيرات إلى وظائف أدنى في قطاعات أخرى، ما أدى إلى تراجع فرص الترقي والدخل طويل الأجل.
يشير أستاذ إدارة الأعمال بجامعة بيتسبرغ، مارك ما، إلى أن "الانتقال إلى قطاع آخر مع خفض الرتبة يُمثل تضحية كبيرة جدًا"، موضحًا أن هذا النمط يُهدد بتكريس عدم المساواة من جديد في بيئة العمل.
وتُصرّ الشركات الكبرى على أن العودة إلى المكاتب ضرورة لتعزيز التواصل والابتكار، فقد وصف آندي جاسي، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، هذه السياسات بأنها "خطوة لتعزيز ثقافة الفريق"، بينما كتب جون ستانكي، الرئيس التنفيذي لشركة AT&T، لموظفيه قائلًا: "إذا كان العمل الافتراضي ضروريًا لتوازن حياتك، فقد تجد صعوبة في التوافق مع ثقافة الشركة".
لكن خلف هذا الخطاب، تكمن ممارسات تمييزية غير مباشرة تؤثر بشكل خاص على النساء، فإلزام العمل الحضوري دون بدائل مرنة يحدّ من قدرة الأمهات على الموازنة بين العمل والأسرة، مما يشكل إخلالًا واضحًا بالحق في تكافؤ الفرص في العمل الذي تكفله المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
الأمومة كعقوبة اجتماعية
تواصل فجوة الرعاية إضعاف النساء اقتصاديًا، حيث تصف "واشنطن بوست" هذا الواقع بمصطلح "جزاء الأمومة"، وهو الثمن الذي تدفعه النساء عندما تتحول مسؤوليات الرعاية إلى عبء اقتصادي طويل الأمد.
تشير الدراسات إلى أن النساء يخسرن في المتوسط نحو 295 ألف دولار على مدار حياتهن المهنية بسبب تأثير الأمومة على الترقيات والمدخرات التقاعدية.
تُوضح الأبحاث أن فجوة الأجور ليست نتيجة "اختلاف في تفضيلات العمل" فقط، بل هو انعكاس لغياب البنية المؤسسية التي تمكّن الأمهات من الاستمرار في وظائفهن دون خسائر، فحين تختفي رعاية الأطفال أو ترتفع تكلفتها، تضطر النساء إلى الانسحاب من سوق العمل أو قبول وظائف أقل.
تراجع العدالة
تُبرز الصحيفة أن تكلفة رعاية طفل واحد تفوق رسوم الدراسة الجامعية في معظم الولايات الأمريكية، وتتجاوز الإيجار الشهري في 17 ولاية.
تقول كولين بولسون، مسؤولة توظيف في بيتسبرغ، إن "النساء يتخذن قرارات صعبة بشأن ما هو الأفضل لعائلاتهن"، مشيرة إلى أن العديد من المرشحات يقبلن تخفيض رواتبهن مقابل مرونة في العمل.
تُظهر هذه المعادلة المقلوبة أن "الاختيار" بين العمل والأسرة ليس خيارًا حقيقيًا، بل نتيجة لسياسات عمل غير عادلة تضع النساء أمام خسارة مزدوجة: خسارة الأجر وخسارة الترقية.
وتُشير ميستي هيجينيس، الأستاذة بجامعة كانساس، إلى أن نسبة الأمهات العاملات تراجعت في النصف الأول من عام 2025 بنحو ثلاث نقاط مئوية، لتصل إلى أدنى مستوى منذ ثلاث سنوات، ما محا المكاسب التي تحققت بعد الجائحة.
من وول ستريت إلى المطبخ
تؤكد مجلة "فوربس" أن الانخفاض في فرص العمل عن بُعد يزيد من ترسيخ فجوة الأجور، فالإعلانات عن الوظائف المرنة انخفضت بنسبة 20% خلال عام واحد، وفقًا لبيانات Indeed.
تُشير الكاتبة كيم إلسيسر إلى أن هذا الانخفاض ينعكس مباشرة على النساء، لأنهن الأكثر اعتمادًا على المرونة كشرط للبقاء في العمل. تقول إن "العمل المرن لم يعد امتيازًا، بل أصبح حقًا مرتبطًا بالمساواة".
وتحذّر فوربس من أن هذا التراجع يحدث في وقت لا تزال فيه فجوة الأجور بين الجنسين راكدة عند 16% تقريبًا، وهو ما يُظهر أن "السوق الحر" لا يصحّح التمييز تلقائيًا.
ومن جانبها، نشرت مجلة "مس" النسوية الأمريكية، في عددها الصادر مطلع 2025 أن الأجور الحقيقية للنساء "تتقلص بينما تتزايد تكاليف المعيشة"، مؤكدة أن غياب سياسات الدعم الأسري يجعل العمل غير متكافئ من أساسه.
تُشير المجلة إلى أن "النساء يتحملن نصيبًا غير عادل من آثار التضخم، لأن دخولهن أقلّ، بينما ترتفع تكاليف الرعاية بشكل أسرع".
وترى أن إخفاق السياسات العامة في معالجة فجوة الأجور يتجاوز كونه قصورًا اقتصاديًا، ليصبح إخلالًا بالحق في المساواة المنصوص عليه في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المواثيق الدولية
تُلزم المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان الشركات بتقييم أثر سياساتها على العدالة الجندرية، إلا أن واقع السوق الأمريكية، يُظهر أن الشركات تميل إلى تغليب الكفاءة المؤسسية على العدالة الاجتماعية.
ففرض العودة الكاملة إلى المكاتب دون اعتبارات للرعاية أو المرونة يُنتِج تمييزًا غير مباشر ضد النساء، حتى وإن لم يكن مقصودًا، وتؤكد هذه المبادئ أن مسؤولية احترام حقوق الإنسان تقع على عاتق الشركات بقدر ما تقع على الحكومات.
تُظهر "مس" أن النقاش حول المساواة في الأجور لم يعد يدور حول الفجوة الرقمية فقط، بل حول البنية التي تُكرّسها، فعندما تتراجع النساء إلى وظائف أقل أجرًا بسبب سياسات غير مرنة، يُعاد إنتاج الفجوة الاقتصادية التي يفترض أن تكون انتهت.
وترى المجلة أن الحديث عن "عودة إلى ثقافة المكتب" يُخفي عودة إلى ثقافة تمييزية في جوهرها، تُعيد النساء خطوة إلى الخلف في سلم المشاركة الاقتصادية والاجتماعية.
وتتفق التقارير الثلاثة لـ"واشنطن بوست" و"فوربس" و"مس" على أن الحل لا يكمن في منح امتيازات فردية، بل في إعادة بناء بيئة العمل على أسس حقوقية واضحة، وتوصي بتبني تشريعات تُلزم الشركات بتقديم خيارات عمل مرنة، وتوفير دعم لرعاية الأطفال، وضمان المساواة في الأجر عن العمل ذي القيمة المتساوية.
وتشير إلى ضرورة تدخل صانعي السياسات لتشجيع نماذج العمل الهجين بوصفها آلية لحماية مشاركة المرأة في الاقتصاد، بينما تدعو واشنطن بوست إلى مراقبة الأثر الجندري لقرارات الشركات الكبرى.
وتحذّر من أن استمرار الاتجاه الحالي سيؤدي إلى انكماش مشاركة النساء في سوق العمل، وهو ما يعني ضياع نصف طاقات الاقتصاد الأمريكي، وأن العدالة الجندرية في الأجر ليست مطلبًا نسويًا فحسب، بل التزامًا قانونيًا وحقوقيًا، وأن "المرونة ليست رفاهية، بل شرطا لتحقيق اقتصاد متوازن وإنساني".