بين التمثيل والمساواة.. جدل العنصرية يهدد حقوق الناخبين السود في أمريكا
بين التمثيل والمساواة.. جدل العنصرية يهدد حقوق الناخبين السود في أمريكا
تشهد الولايات المتحدة واحدة من أكثر القضايا الانتخابية حساسية منذ عقود، مع استعداد المحكمة العليا لإعادة النظر في قضية "لويزيانا ضد كاليه" التي قد تعيد رسم ملامح حقوق التصويت في البلاد، وتعيد فتح النقاش حول حدود المساواة العرقية داخل النظام الديمقراطي الأمريكي.
القضية لا تقتصر على نزاع محلي حول خريطة انتخابية، وفق تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش" في نسختها الإنجليزية، بل تمس جوهر فكرة التمثيل السياسي المتكافئ التي وُلد منها قانون حقوق التصويت قبل ستين عامًا، والذي شكّل أحد أعمدة النضال ضد التمييز العنصري في القرن العشرين.
جذور القضية
بدأت الأزمة عام 2022 حين رسم مشرعو ولاية لويزيانا خريطة جديدة لمقاعد الكونغرس تضمنت دائرة واحدة فقط تتيح للناخبين السود، الذين يشكلون ثلث سكان الولاية، فرصة حقيقية لانتخاب ممثل عنهم، وقد رأت المحاكم الفيدرالية أن هذا التوزيع يخالف قانون حقوق التصويت لعام 1965، الذي يمنع أي ممارسة انتخابية تُضعف القوة التصويتية لمجموعة عرقية معينة.
وبناء على ذلك، أُنشئت دائرة ثانية ذات أغلبية من الناخبين السود تربط بين مدينتي باتون روج وشريفبورت، في محاولة لتصحيح الخلل وتحقيق تمثيل أكثر عدالة، غير أن مجموعة من الناخبين البيض رفعت دعوى تطعن في هذا الإجراء، معتبرة أن إنشاء دائرة تُراعى فيها اعتبارات عرقية يُشكل تمييزًا بحد ذاته، ومن هنا بدأت القضية تأخذ مسارًا دستوريًا معقدًا، وضع المحكمة العليا أمام سؤال بالغ الأهمية، هل يُعد تصحيح آثار التمييز العنصري شكلًا جديدًا منه؟
هل تتحول أدوات العدالة إلى سلاح؟
يعتمد الطعن في هذه القضية على فكرة أن مراعاة العرق في رسم الدوائر الانتخابية تخالف مبدأ المساواة أمام القانون الذي يكفله الدستور، لكن خبراء قانونيين يرون أن هذا المنطق يعكس فهمًا مقلوبًا للتاريخ الأمريكي، إذ إن التمييز ضد السود كان راسخًا في البنية الانتخابية لعقود طويلة، وأن تجاهل العرق في هذه الحالة يعني عمليًا الإبقاء على الامتيازات البيضاء القائمة.
ويحذر العديد من المتابعين من أن المحكمة العليا قد تفتح الباب أمام تقويض قانون حقوق التصويت، على غرار ما حدث في قضية "مقاطعة شيلبي ضد هولدر" عام 2013، حين ألغت المحكمة جزءًا رئيسيًا من القانون سمح للولايات بوضع قوانين انتخابية من دون إشراف فيدرالي، الأمر الذي أدى إلى موجة من القيود على تسجيل الناخبين في ولايات الجنوب.
انعكاسات القضية
في حال قررت المحكمة أن إنشاء دوائر انتخابية تراعي تمثيل الأقليات يُعد تمييزًا عنصريًا، فإن ذلك قد ينسف الأساس الذي بُني عليه قانون حقوق التصويت، فالقانون يقوم على مبدأ “التأثير المتفاوت”، أي أن السياسات التي تُنتج نتائج تمييزية تُعتبر مخالفة حتى لو لم تتضمن نية صريحة للتمييز.
منذ نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، شكّل التمثيل السياسي للسود ساحة الصراع الأهم في معركة الحقوق المدنية، فقد ضمنت التعديلات الدستورية الرابع عشر والخامس عشر حقهم في المواطنة الكاملة والتصويت، لكن ذلك الحق أُفرغ من مضمونه لعقود عبر ما عُرف بقوانين "جيم كرو" التي فرضت الفصل العنصري في الجنوب.
جاء قانون حقوق التصويت عام 1965 ليعيد تصحيح المسار التاريخي، بفضل نضال شخصيات مثل مارتن لوثر كينغ وجون لويس، حيث حظر استخدام أي وسيلة تهدف إلى تقييد حق التصويت على أساس العرق، ومنذ ذلك الحين، كان القانون أحد أهم ضمانات الديمقراطية الأمريكية.
لكن العقد الأخير شهد تراجعًا تدريجيًا في فاعليته، إذ ألغت المحكمة العليا في 2013 بعض آلياته الرقابية، ما أدى إلى سن قوانين جديدة لتقييد التصويت في أكثر من عشرين ولاية، شملت متطلبات معقدة للهوية أو تقليص فترات التصويت المبكر، وهي إجراءات أثبتت الدراسات أنها تؤثر بشكل غير متناسب على الأقليات العرقية والفقراء.
أصوات مهددة بالإقصاء
بالنسبة للناخبين السود في لويزيانا، لا تمثل القضية مجرد خلاف قانوني بل صراعًا على الحق في أن تُسمع أصواتهم في بلد لا تزال الانقسامات العرقية تترك بصمتها في السياسة والمجتمع.
تشير بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي إلى أن نحو 32 في المئة من سكان لويزيانا هم من السود، لكن تمثيلهم في الكونغرس لا يتجاوز 17 في المئة، ويقول نشطاء إن الخريطة الانتخابية التي أقرتها الولاية سابقًا حوّلت أصوات الناخبين السود إلى "أصوات مخففة التأثي"، بحيث تُوزع على دوائر يغلب عليها الطابع الأبيض، ما يُضعف فرص فوز مرشحيهم.
وتؤكد منظمات المجتمع المدني مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ومشروع العدالة الجنوبية أن أي تراجع جديد في حماية قانون حقوق التصويت سيعيد البلاد إلى ما قبل ستين عامًا، حين كان القمع الانتخابي أداة سياسية مشروعة.
المواقف الدولية والحقوقية
أثارت القضية اهتمامًا واسعًا في أوساط الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، التي تتابع عن كثب تطوراتها باعتبارها اختبارًا لالتزام الولايات المتحدة بمعايير المساواة المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
وأكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في بيانها الأخير أن ضمان المساواة في المشاركة السياسية هو أحد الركائز الأساسية للديمقراطية، وأن أي قرارات تُقيد هذا الحق على أساس عرقي تُعد مخالفة للمبادئ الدولية، كما دعا مجلس أوروبا ومنظمات دولية أخرى واشنطن إلى تعزيز الإطار القانوني الذي يمنع التمييز في الانتخابات بدلاً من تقويضه.
مستقبل الديمقراطية على المحك
تتزامن المداولات في المحكمة العليا مع تصاعد التوتر السياسي الداخلي واستقطاب عرقي متزايد قبل الانتخابات المقبلة، ما يضاعف من حساسية القرار المنتظر، ويرى مراقبون أن النتيجة قد تُعيد تشكيل الخريطة السياسية الأمريكية لعقود، ليس فقط في لويزيانا، بل في ولايات الجنوب كافة.
وإذا ما قضت المحكمة بأن السياسات التي تراعي العدالة العرقية تمثل تمييزًا بحد ذاتها، فإن ذلك سيشكل تحولًا جوهريًا في مفهوم الحماية الدستورية، ويُعيد تعريف العلاقة بين العدالة والمساواة في الديمقراطية الأمريكية.
القضية التي تقف الآن أمام المحكمة العليا ليست مجرد نزاع انتخابي، بل لحظة فاصلة في تاريخ الحقوق المدنية بالولايات المتحدة، فبعد ستة عقود من قانون حقوق التصويت الذي وُلد من رحم نضال مرير ضد العنصرية، تعود البلاد إلى نقطة التساؤل الأولى.. من يملك الحق في أن يُسمع صوته؟