بعد قضية انتهاك الحقوق.. إغلاق منظمة SOS في سوريا يثير جدلاً حول مصير آلاف الأيتام
بعد قضية انتهاك الحقوق.. إغلاق منظمة SOS في سوريا يثير جدلاً حول مصير آلاف الأيتام
أعلنت منظمة SOS سوريا اليوم السبت عن الإغلاق الكامل لجميع أنشطتها داخل الأراضي السورية مع نهاية العام الحالي، في خطوة وُصفت بأنها واحدة من أكثر القرارات المفاجئة في قطاع العمل الإنساني خلال السنوات الأخيرة، وأبلغت المنظمة جميع موظفيها بانتهاء عقودهم بنهاية ديسمبر، مع الإبقاء على عدد محدود لتصفية الحسابات المالية والإشراف على نقل الأطفال المقيمين في دور الرعاية التابعة لها إلى مؤسسات أخرى.
وقالت المنظمة في بيان رسمي إن قرارها جاء نتيجة لما سمته الظروف الأخيرة، في إشارة واضحة إلى القضية التي هزّت الرأي العام خلال الأشهر الماضية والمتعلقة بمزاعم تورط دور رعاية أيتام سورية في انتهاكات لحقوق الأطفال المعتقلين وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
قضية هزت الثقة بالعمل الإنساني
تأتي الخطوة في ظل تصاعد الجدل حول تورط مسؤولين وشخصيات عامة في ملف رعاية الأطفال السوريين، منهم أسماء الأسد وسمر دعبول الرئيسة السابقة لمجلس إدارة فرع المنظمة في سوريا.
وقد أعادت هذه القضية طرح أسئلة جوهرية حول مدى شفافية المنظمات الدولية في تعاملها مع السلطات المحلية، وحول حدود مسؤوليتها القانونية والأخلاقية عندما تتحول مؤسسات الرعاية إلى أدوات نفوذ أو دعاية سياسية.
وقالت مصادر قريبة من المنظمة إن القرار جاء لحماية سمعتها الدولية وتأمين تمويلها المستقبلي، في ظل خشية متزايدة من فقدان ثقة المتبرعين الدوليين والحكومات المانحة.
وأضافت أن المقر الرئيسي في فيينا تلقى خلال الأسابيع الماضية مذكرات استفسار من هيئات مانحة حول طبيعة علاقات المنظمة بجهات سورية متهمة بانتهاكات، ما جعل الإغلاق “أمراً حتمياً لتفادي أزمة ثقة شاملة”.
تداعيات إنسانية عميقة
يخشى مراقبون أن يؤدي إغلاق المنظمة إلى فراغ حاد في خدمات الرعاية الاجتماعية المقدمة للأطفال الأيتام والمحرومين من الرعاية الأسرية، فقد كانت SOS من أبرز الجهات التي تشرف على مراكز إيواء وتقدم برامج تعليمية ونفسية لنحو خمسة آلاف طفل في مناطق عدة، بينها دمشق وحلب واللاذقية، ومع غياب البديل، يُتوقع أن تواجه مئات العائلات صعوبات في تأمين احتياجات أبنائها، في وقت يعاني فيه النظام التعليمي والخدمات الاجتماعية من الانهيار شبه التام بسبب الحرب والعقوبات وتراجع التمويل الدولي.
وفي هذا السياق، قالت المتحدثة باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في بيان نقلته وسائل إعلام أوروبية، إن المنظمة "تتابع بقلق بالغ" تداعيات انسحاب SOS من سوريا، محذّرة من أن توقف عملها سيؤثر في آلاف الأطفال الذين يعتمدون على برامج الرعاية اليومية، وأضاف البيان أن "الفراغ الناتج عن غياب منظمة بحجم SOS لا يمكن تعويضه بسهولة"، داعياً جميع الشركاء المحليين والدوليين إلى ضمان عدم انقطاع الخدمات الأساسية.
وفي المقابل، التزمت الجهات الحكومية السورية الصمت حيال إعلان الإغلاق، في حين اكتفت مصادر في وزارة الشؤون الاجتماعية بالإشارة إلى أن الأطفال الموجودين في دور الرعاية سيُنقلون إلى مراكز محلية تحت إشراف الوزارة، إلا أن نشطاءً حقوقيين أعربوا عن مخاوفهم من أن تتحول هذه المراكز إلى أماكن احتجاز مقنعة، خصوصاً بعد تقارير سابقة تحدثت عن حالات سوء معاملة واحتجاز غير قانوني.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن ما حدث مع SOS يجب أن يكون "جرس إنذار خطير للمجتمع الدولي" بشأن البيئة المقيدة التي تعمل فيها المنظمات الإنسانية في سوريا، وأوضحت في تقرير نشرته مؤخراً أن الحكومة السورية "تتعامل مع بعض المؤسسات الدولية بوصفها أدوات رقابة بدلاً من اعتبارها شركاءً في العمل الإنساني"، مشيرة إلى أن العديد من المنظمات تواجه عراقيل إدارية وأمنية تجعل من عملها المستقل شبه مستحيل.
القانون الدولي والالتزامات الأخلاقية
من منظور القانون الدولي، يُعد انسحاب منظمة إنسانية من منطقة نزاع تطوراً مقلقاً، إذ تفرض اتفاقيات جنيف التزاماً بحماية الفئات الضعيفة، خصوصاً الأطفال، ويقول خبراء في القانون الإنساني إن انسحاب SOS يطرح تساؤلات حول مدى قدرة المجتمع الدولي على ضمان استمرار الخدمات الإنسانية دون تدخل سياسي، خصوصاً في دول تشهد نزاعات طويلة الأمد.
وأشارت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل في تقريرها الأخير إلى أن "انهيار شبكات الرعاية الرسمية للأطفال في سوريا يُعد كارثة صامتة"، لافتة إلى أن ما يزيد على مليوني طفل في البلاد يعانون من انعدام الأمن النفسي والاجتماعي، وأضافت أن غياب المنظمات المستقلة سيؤدي إلى "تضاؤل فرص الحماية ويزيد من احتمالات استغلال الأطفال في العمل أو التجنيد أو الاتجار بالبشر".
في الأوساط الحقوقية الدولية، اعتُبر قرار SOS خطوة اضطرارية أكثر من كونه انسحاباً اختيارياً، فقد أوضح تقرير صادر عن مركز جنيف للسياسات الإنسانية أن المنظمات العاملة في سوريا تواجه منذ سنوات ضغطاً متزايداً من المانحين لإثبات الشفافية ومن السلطات السورية لتقييد أنشطتها، وأشار التقرير إلى أن المعادلة المستحيلة بين البقاء والعمل بضمير أخلاقي دفعت كثيراً من المنظمات إلى تقليص أنشطتها أو الانسحاب الكامل.
وفي حديث لموقع "إندبندنت" البريطاني، قالت الخبيرة في شؤون الإغاثة سيلفيا ماير إن انسحاب SOS "يكشف عمق الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العمل الإنساني في سوريا، حيث يصعب على أي منظمة الحفاظ على استقلالها في ظل الرقابة الصارمة والضغوط السياسية"، وأضافت أن الخاسر الوحيد هو الطفل السوري الذي يجد نفسه مجدداً بلا حماية حقيقية ولا صوت يدافع عنه.
مستقبل غامض للطفولة
بينما تتسارع الخطوات الإجرائية لإغلاق مكاتب SOS، يبقى السؤال الأكبر حول مصير الأطفال السوريين الذين كانوا تحت رعايتها، وتشير تقديرات أولية إلى أن نحو 1800 طفل يعيشون في المراكز التابعة للمنظمة قد يتم نقلهم تدريجياً إلى مؤسسات أخرى، لكن من دون ضمان استمرار مستوى الرعاية ذاته، ويرى خبراء أن فقدان الثقة في المؤسسات الإنسانية قد ينعكس سلباً على مستقبل التمويل الدولي لبرامج حماية الطفولة في سوريا.
في النهاية، يمثل انسحاب SOS أكثر من مجرد إغلاق إداري، بل هو رمز لانهيار ما تبقى من جسور الثقة بين المجتمع الدولي والبيئة المحلية السورية، ورسالة موجعة مفادها أن الأطفال -وهم الأشد ضعفاً- يدفعون دائماً الثمن الأكبر في حروب لا يملكون فيها صوتاً ولا قراراً.










