لحل أزمة العزلة المجتمعية.. ابتكار دمى صغيرة لدعم كبار السن في كوريا الجنوبية

لحل أزمة العزلة المجتمعية.. ابتكار دمى صغيرة لدعم كبار السن في كوريا الجنوبية
دمى صغيرة لدعم كبار السن

في كل صباح جديد في كوريا الجنوبية، يستيقظ آلاف المسنّين على صمت ثقيل، لا صوت فيه لخطوات أفراد الأسرة، ولا رنين هاتف، ولا دفء حديث عابر. 

وفي بلد يُعدّ من أكثر المجتمعات تقدّمًا تكنولوجيًّا في العالم، يعيش كبار السن واحدة من أقسى أشكال العزلة في العصر الحديث، بحسب ما ذكرت "سي إن إن"، اليوم الأحد. 

ووفق تقرير نُشر في يونيو 2025 في مجلة الجمعية الطبية الكورية، ينتحر نحو 10 من كبار السن يوميًا، في رقم يثير صدمة أخلاقية عميقة، ويضع المجتمع الدولي أمام سؤال لا يمكن تجاهله: أين تقع مسؤوليتنا تجاه من أفنوا حياتهم ليبنوا ما نعيش فيه اليوم؟

تشير بيانات رسمية إلى أن كوريا الجنوبية باتت تُصنّف ضمن "المجتمعات فائقة الشيخوخة"، إذ تجاوز عدد من تزيد أعمارهم عن 65 عامًا حاجز 10 ملايين شخص، أي ما يقارب 20% من السكان. 

هذا التحول الديموغرافي المتسارع لم يواكبه تطورٌ موازٍ في أنظمة الحماية الاجتماعية أو الرعاية النفسية، ما ترك جزءًا كبيرًا من كبار السن في مواجهة الفقر والوحدة وغياب المعنى.

العزلة تنتهك الحقوق

من أبرز حقوق الإنسان العالمية الحق في الكرامة والحياة الآمنة والصحة النفسية والاجتماعية. لكن واقع كثير من كبار السن في شرق آسيا، وخصوصًا في كوريا الجنوبية واليابان وهونغ كونغ، يكشف عن فجوة خطيرة بين هذه المبادئ والواقع المعيش.

تفيد دراسات اجتماعية أن واحدًا من كل ثلاثة مسنين في كوريا الجنوبية يعيش بمفرده. تلاشت الأسرة الممتدة التي كانت تشكّل شبكة أمان طبيعية، وحلّت محلها حياة حضرية سريعة لا تترك مجالًا للرعاية الجماعية. 

ولم يعد كبار السن يُنظر إليهم بوصفهم مصدر حكمة وخبرة، بل -في بعض الحالات- بوصفهم "عبئاً اقتصادي"، وهو توصيف يحمل في داخله عنفًا معنويًا عميقًا ينعكس على الصحة النفسية.

هذا النوع من التهميش يُعدّ انتهاكًا غير مباشر للحق في العيش بكرامة، ويؤدي إلى الاكتئاب، والشعور باللاجدوى، وفي كثير من الأحيان، إلى التفكير في إنهاء الحياة.

حل أم مسكّن مؤقت؟

في مواجهة هذا الواقع، لجأت الحكومة الكورية الجنوبية إلى خيار لم يكن مألوفًا قبل سنوات قليلة: الاستعانة بالذكاء الاصطناعي ليكون رفيقاً لكبار السن.

ظهرت شركة تُدعى "هيودول" قدّمت دمية ذكية تعمل بالذكاء الاصطناعي، مصممة على هيئة طفلة صغيرة بملامح ودودة، تتفاعل بالصوت واللمس، وتتحدث بنبرة حنونة، وتقدم التذكير بالأدوية، والتحية اليومية، والموسيقى، وبعض التمارين الذهنية.

حتى شهر نوفمبر الجاري، جرى توزيع أكثر من 12 ألف وحدة على كبار السن الذين يعيشون بمفردهم، معظمها من خلال برامج الرعاية الحكومية، في حين اشترت بعض العائلات هذه الدمية لكبارها مباشرة بسعر يقارب 879 دولارًا أمريكيًا.

تقول إحدى العاملات الاجتماعيات التي فضّلت عدم ذكر اسمها إن امرأة كانت على وشك الانتحار من شرفة شقتها في الطابق الحادي عشر، تغيّرت حالتها بعد حصولها على الروبوت، كوّنت معه علاقة وجدانية خفّفت من وحدتها، وأعادته إليها شعورًا بسيطًا بوجود من "ينتظرها".

كرامة الإنسان في عصر الآلة

يثير استخدام دمى شبيهة بالأطفال لمرافقة كبار السن جدلًا أخلاقيًا عميقًا. فهل يعكس ذلك طفولةً قسرية تُفرض على كبار العقول والخبرات؟ وهل تحل هذه التكنولوجيا محل الزيارات العائلية، والاهتمام المجتمعي، والمسؤولية الحكومية؟

تؤكد الشركة المطوّرة أن البيانات تُخفى هويتها، وأن الهدف الوحيد هو الدعم لا المراقبة. لكن الخبراء في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي يحذّرون من خطر التعلق المرضي، واستبدال العلاقات الحقيقية بروابط وهمية، وهو ما قد يؤدي إلى انسحاب اجتماعي كامل، بدلًا من إعادة الدمج في المجتمع.

وفي إحدى الحالات، قامت سيدة مسنة بتسمية الدمية باسم ابنتها المتوفاة، ثم بدأت تنعزل تمامًا عن محيطها البشري. هنا يتحول الحل إلى وجه آخر من وجوه الهروب المؤلم.

وفي اليابان، جرى اللجوء إلى نموذج مختلف.. روبوت على هيئة فقمة لطيفة يُدعى "بارو"، لا يتحدث، لكنه يتفاعل صوتيًا وحركيًا. اعتمد هذا التصميم على فكرة تجنّب "التشخيص البشري" للروبوت، تجنبًا للتلاعب العاطفي. 

وأظهرت الدراسات أنه أسهم في تخفيف القلق والاكتئاب لدى كبار السن ومن يعانون من الخرف واضطراب ما بعد الصدمة.

ما المطلوب إنسانياً وحقوقياً؟

تُظهر هذه التجارب أن التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة دعم، لكنها يجب ألا تصبح أداة بديلة عن المسؤولية الإنسانية، حيث إن حق كبار السن في الرعاية لا يقتصر على الغذاء والدواء، بل يشمل أيضًا، الحق في التفاعل الاجتماعي الحقيقي، والحق في المشاركة في المجتمع.

بالإضافة إلى الحق في احترام تاريخهم وخبرتهم، الحق في الدعم النفسي المجاني والمتخصص، والحق في الحماية من العزلة والتهميش.

وقد تنجح الدمى الذكية في إنقاذ بعض الأرواح، لكنها ليست حلًا جذريًا. الحل الحقيقي يبدأ بإعادة بناء الرابط بين الأجيال، وتعزيز ثقافة احترام الشيخوخة، وإدماج كبار السن في الحياة العامة، وتطوير أنظمة دعم اجتماعي تحمي صحتهم النفسية قبل أجسادهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية