الحرب على وكالة الغوث.. محنة «الأونروا»

الحرب على وكالة الغوث.. محنة «الأونروا»

أشعر بحيرة وأنا أتابع مع الملايين غيري ردود فعل أحداث غزة على كل الأصعدة، ففي الوقت الذي كان يتوقع فيه الأغلب الأعم من البشر أن يكون هناك سعي حثيث لتضميد جراح الشعب الفلسطيني وتهدئة روع أطفاله ونسائه بعد شهور من القصف المتواصل والقتل بدم بارد والإعدام في الشوارع، نعم كان توقعنا هو أن يهرع المجتمع الدولي إلى إسكات صوت المدافع وضربات الصواريخ في أجواء الأراضي الفلسطينية والدول المجاورة، فإذا بنا نفاجأ بمحاولة إسرائيلية أمريكية مدعومة من دول تابعة للقوى المعادية للشعب الفلسطيني ونضاله الطويل تسعى لتوسيع دائرة الصراع وتستهدف منظمة الإغاثة التي تعمل منذ أكثر من 75 عامًا تحت اسم وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) قد أصبحت هي الضحية الأخيرة للشعب الفلسطيني على مذبح الطغيان الإسرائيلي الذي اتخذ من طوفان الأقصى مبررًا لكي يفعل ما يريد مثلما حدث من استغلالٍ ضخم لحادث 11 سبتمبر 2011.

 فمثلما كان ذلك مبررًا لقيام إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بالعدوان على أفغانستان ثم العراق ودمغهما بخاتم الإرهاب فإن الذي يحدث الآن هو تطبيق مماثل بحيث يعاقب المجتمع الدولي الشعب الفلسطيني على خطيئته الكبرى عندما طالب بحق تقرير المصير ثم تجرأ وطالب بدولة فلسطينية مستقلة، إنها ذات الحلقة الشريرة المفرغة في محاولة تطويع كل منها للآخر وما لم يحدث يمكن أن يتحقق في المستقبل القريب. إننا نتطلع إلى نظرة عالمية مختلفة للقضية الفلسطينية بعد أحداث 7 أكتوبر 2023.

وبغض النظر عن نتائج ما جرى إلا أن ذلك يبدو كصيحة إنذار أخير قبل انفجار المنطقة كلها بفعل تأثير القضية المزمنة التي التهمت فيها إسرائيل حقوق الشعب الفلسطيني ودأبت على التحرش اليومي بمن يمثلون ذلك الشعب ويطالبون بحقوقه، ولعل تجميد إسهامات عدد كبير من الدول المانحة للأونروا هي محاولة لتجويع الشعب الفلسطيني ومنع الغذاء والدواء عن الذين يعيشون في العراء في ظل أحوال جوية سيئة وظروف إنسانية متدهورة.

 إنه منطق معكوس وأسلوب يجافي الأعراف في التاريخ البشري كله وها هي إسرائيل تعربد فوق أرض غيرها وتغتصب كل يوم ما ليس لها، ولسوف يذكر التاريخ أن شعبًا مناضلًا باسلًا ظل يقاوم آلة الحرب الدامية بشجاعة منقطعة النظير، وعندما تصورنا أو توهمنا أن ما هو قادم سوف يكون تعويضًا عما مضى وأن المجتمع الدولي سوف يتكاتف لإعادة الحياة في إقليم غزة بعدما تجرع شعبها الكأس المرة وجربت فيه إسرائيل أحدث الأسلحة الأمريكية وأطلقت ضده حربًا إعلامية مشبوهة لإجهاض قضيته وتحويل مفهوم الكفاح المسلح إلى مضمون مختلف يضع ذلك الشعب الأبي المناضل في خانة الإرهاب إلا أنه في الحقيقة هو الذي يعاني إرهاب الدولة العبرية على امتداد العقود الأخيرة، وبدلًا من تضميد جراحه ودفن شهدائه والبدء في حركة إعمار واسعة لكي يبقى ذلك الشعب الأبي فوق أرضه فوجئنا بما هو مختلف تماماً، فإسرائيل تسعى إلى منع الرعاية الصحية والمشافي العلاجية والمدارس التعليمية ومصادر الغذاء والكساء أمام ذلك الشعب الذي يمر بأحلك الظروف وأصعب الأوقات حتى أتت الضربة في منظمة (الأونروا) التي تعتبر العمود الفقري للحياة اليومية لأبناء الضفة والقطاع وامتدادهم في الأردن وسوريا ولبنان.

 وكأن إسرائيل تريد أن تطفئ كل المصابيح وأن تقضى نهائيًا على الشعب الفلسطيني لأنه تجرأ وطالب بحقوقه وتطبيق الشرعية الدولية وحقه في إقامة وطنه المستقل وأرضه المحررة وعاصمتها القدس، ولقد عشنا وعاش جيلي كي نرى التدهور الذي طرأ على القضية الفلسطينية والظلم الذي يحيط بها ليجعل الأمل محدودًا في ظل مجتمع دولي يفتقد لمعايير العدالة بل ويكيل بمكيالين ويطبق سياسة ازدواج المعايير بشكل فاضح لأن القوى الكبرى التي تقوده تؤمن بمنطق القوة ولا ترى ميزان العدالة من أي اتجاه.

إنني شخصيًا أشعر بأننا نعيش في زمان مختلف وعالم يقترب فيه المشرق من طبيعة الغرب وكأن المنادي يقول: وداعًا للقيم الإنسانية، والعدالة القانونية، والشرعية الدولية، والإعمار المنتظر، والاستقرار المطلوب لكي يظل الحطام والتدمير والخراب يحيط بالمشهد الدولي كما لم نعرفه من قبل.. إن وكالة غوث اللاجئين كانت تعبيرًا إنسانيًا صادقًا عن محنة ذلك الشعب الذي سُلبت أرضه وتهدمت دياره وجرى تهجير عائلاته في أعوام 1948 و1967 وما بعدهما من فترات قاسية مرت على ذلك الشعب الصلب صاحب الإرادة التي لا تضعف أبدًا.

 كما أن وجود الأونروا كان اعترافًا دوليًا بمأساة الشعب الفلسطيني واسمًا تتذكر به الإنسانية أوجاع ذلك الشعب الذي ضحى كثيرًا ولا يزال جسده ينزف دمًا من أجل التخلص من المعاناة القاسية التي ما زالت تسببها له جرائم إسرائيل التي لا تتوقف، وإلى الذين صدعونا بالأحاديث المتكررة والملاحظات الدائمة عن قضايا حقوق الإنسان أقول لهم أين أنتم من مثل هذا القرار الآثم بتجميد أعمال الأونروا وهي الملاذ الأخير لذلك الشعب الذي يستحق كل أسباب الرعاية ومظاهر الاهتمام تكفيرًا عما جرى له، خصوصًا بعد أن أدركته مأساة غزة الأخيرة بكل ويلاتها وما تركته من معاناة وتشريد وظلم سوف يترسب في ذاكرة الإنسانية وأجيالها القادمة لقرون مقبلة؟!


نقلا عن صحيفة الأهرام


 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية