«سجون العزلة والتعصب».. تمييز مُضاعف يواجه ذوي الإعاقة من الشعوب الأصلية
«سجون العزلة والتعصب».. تمييز مُضاعف يواجه ذوي الإعاقة من الشعوب الأصلية
بمضاعفة المعاناة والمآسي، يقف الأشخاص من ذوي الإعاقة داخل الشعوب الأصلية على حافة الأوجاع جراء نقص خدمات الرعاية الصحية والتعليم والسكن اللائق وفرص العمل وغيرها.
وبحسب التقديرات الدولية، ينتشر 476 مليون نسمة من السكان الأصليين حول العالم المنتشرين في أكثر من 90 بلدًا معظمهم في آسيا، إذ يمثلون نحو 5 بالمئة من سكان العالم، ويتحدثون أكثر من 4 آلاف لغة.
وتتسم الشعوب الأصلية باختلاف عاداتهم وثقافاتهم، غير أنهم مشتركون في مواجهة الوقائع القاسية، ومنها الطرد من أراضيهم، والحرمان من فرصة التعبير عن ثقافتهم، والاعتداءات البدنية، والمعاملة كمواطنين من الدرجة الثانية.
كما يتم تعريف الشعوب الأصلية وفقًا لخصائص معينة، أبرزها الصلة التاريخية مع أولئك الذين سكنوا بلدًا أو منطقة في الوقت الذي وصل فيه أناس من ثقافات أو أصول عرقية مختلفة، والارتباط الوثيق بالأراضي والموارد الطبيعية المحيطة، والأنظمة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية المتميزة، إلى جانب اللغة والثقافة والمعتقدات المتميزة، والتعرض للتهميش والتمييز المجحف من قبل الدول، والحفاظ على بيئاتهم وأنظمتهم الموروثة عن أجدادهم.
وترد حقوق الشعوب الأصلية في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، الذي تم اعتماده في عام 2007، كما يعد المنتدى الدائم المعني بقضايا الشعوب الأصلية هو الهيئة المركزية داخل الأمم المتحدة التي تتناول قضايا السكان الأصليين المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافة والبيئة والتعليم والصحة وحقوق الإنسان.
تمييز مضاعف
ومؤخرا، ناقش “المجلس الدولي لحقوق الإنسان” تقرير المقرر الخاص المعني بحقوق الشعوب الأصلية، خوسيه فرانسيسكو كالي تزاي، حول الأشخاص ذوي الإعاقة من أفراد الشعوب الأصلية، في إطار انعقاد الدورة الـ57 المنعقدة في جنيف.
وأفاد التقرير الأممي بأن الأشخاص من ذوي الإعاقة داخل الشعوب الأصلية يمثلون تمثيلا زائدا في أوساط الأشخاص الذين يعيشون في فقر، ونادرا ما يُستشارون في المسائل التي تمسهم، كما أنهم أكثر عرضة للعنف والتمييز المنهجي من جانب الدول والجهات الفاعلة الأخرى.
وأوضح أن التمييز التاريخي والفقر المدقع يسهمان في الظروف غير المواتية التي يعيش في ظلها هؤلاء الأشخاص، إذ غالبا ما تعامل الشعوب الأصلية معاملة تمييزية عند التماس الرعاية الصحية، ويمكن أن تؤدي العنصرية إلى تشخيصات خاطئة وإلى امتناع أفراد الشعوب الأصلية عن الحصول على خدمات الرعاية الصحية وخدمات إعادة التأهيل عند اللزوم.
ووفق تقرير سابق لمنظمة العفو الدولية (غير حكومية مقرها لندن) فإن التمييز المجحف هو السبب في أن الشعوب الأصلية تشكل 15 بالمئة من الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع في العالم.
وقد تتسبب العنصرية المؤسسية في تفادى الأشخاص ذوي الإعاقة من أفراد الشعوب الأصلية التعامل مع نظام الرعاية الصحية حتى لا يتعرضون للمزيد من النبذ والتمييز.
ويؤدي تفاقم التحديات التي تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة من أفراد تلك الشعوب، إلى عدم إدراجهم في نظم الرعاية الاجتماعية الحكومية، إلى جانب عدم الاعتراف بنظم الرعاية الصحية الخاصة بتلك الشعوب وعدم تعزيزها، وذلك حتى في البلدان التي توفر خدمات دعم معززة في مختلف مجالات الرعاية.
وبحسب التقديرات الأممية، يواجه الصم وضعاف السمع من الأشخاص ذوي الإعاقة المنتمين إلى الشعوب الأصلية عقبات إضافية من جراء نقص خدمات الترجمة الشفوية الملائمة.
وتسجل الشعوب الأصلية ككل ارتفاعا غير متناسب في أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة، واحتمال الإعاقة في أوساط نساء الشعوب الأصلية أكبر مقارنة بما هو عليه في أوساط رجال تلك الشعوب.
وغالبا ما يكون تأثير العقبات التي تعترض نساء ورجال تلك الشعوب على حد سواء أشد وطأة على نساء الشعوب الأصلية ذوات الإعاقة، فبالإضافة إلى ما تتعرض له نساء تلك الشعوب من تمييز بسبب أصلهن الإثني، فإنهن يتعرضن أيضاً للتمييز الجنساني والعديد من المخاطر التي لا تخلو منها حياة نظرائهن من الرجال.
كما أن احتمال التحاق الفتيات ذوات الإعاقة بالمدارس أقل بكثير من احتمال التحاق الفتيان بها، واحتمال توظيفهن أقل بكثير مقارنة بالرجال، وهن أكثر عرضة للعنف الجنسي وغير الجنسي على حد سواء، بحسب الأمم المتحدة.
جرائم معاصرة
وفي عام 2016، تعرضت العديد من نساء السكان الأصليين لجرائم في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا، حيث تم اختطاف أو قتل النساء والفتيات من السكان الأصليين بمعدل لا هوادة فيه.
وأعلن المركز الوطني لمعلومات الجريمة، التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي آنذاك، أن هناك 5712 تقريرًا عن النساء والفتيات المفقودات من الهنود الأمريكيين وسكان ألاسكا الأصليين، رغم أن قاعدة البيانات الفيدرالية للأشخاص المفقودين التابعة لوزارة العدل الأمريكية سجلت 116 حالة فقط.
وجاء هذا التعامل الوحشي لعدة أسباب، أبرزها يكمن في القضايا الناجمة عن قانون إعادة توطين الهنود والسياسات الفيدرالية، حيث لا يعيش العديد من الأمريكيين الأصليين في الأراضي أو المحميات القبلية (22٪ فقط) ويعيش العديد منهم أسلوب حياة عابراً بين الأراضي القبلية وأراضي الولاية.
ويعرض هذا مجموعة متنوعة من القضايا الحاسمة التي تشمل سياسات الإبلاغ، والتعقيدات القضائية، ومشاكل الاتصال والتنسيق بين الوكالات، إذ يمتلك الأمريكيون الأصليون المقيمون في المناطق الحضرية القليل من الموارد المرتبطة بثقافتهم ومجتمعهم القبلي.
ويقع العديد من الهنود الحضريين، والأشخاص الذين يعيشون في المدن، في "خط الضعف" حيث إنهم الأشخاص الملونون، والذين يعانون من الفقر، والذين يخرجون من نظام الرعاية، والذين يفتقرون إلى الموارد أو الأسرة، والمعزولون عاطفيًا أو جسديًا أو نفسيًا عن المجتمع الأمريكي.
وبحسب الإفادات الأممية، فشلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية في العمل على معالجة الآثار المتبقية للعنصرية المؤسسية، رغم إطلاق عدد من المبادرات على مستوى الولايات والمستوى المحلي للتحقيق في الانتهاكات المحلية ضد مجتمعات السكان الأصليين.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك ولاية "مين" التي أنشأت في عام 2013 لجنة الحقيقة والمصالحة لرعاية الأطفال في ولاية مين واباناكي لتسليط الضوء على الاستيعاب القسري لآلاف أطفال واباناكي من قبل خدمات رعاية الأطفال التابعة للولاية في الخمسينيات من القرن الماضي.
وعلى مدى ثلاث سنوات استمعت اللجنة إلى شهادات حول الانتهاكات المرتكبة والآثار طويلة الأمد على حياة الناس وثقافتهم، لكنها لم تستطع تحسين جودة حياتهم أو مساعدتهم على التعافي النفسي جراء مواجهة كل أشكال العنصرية.
أوجاع منسية
بدورها، اعتبرت الناشطة اليمنية رائدة الذبحاني، أستاذة القانون الدولي الإنساني وسفيرة السلام بالأمم المتحدة، أن معاناة الشعوب الأصلية "أوجاع منسية"، وبالتالي فإن الأشخاص ذوي الإعاقة داخل هذه الشعوب ليسوا على خريطة الاهتمامات الحقوقية العالمية من الأساس.
وأوضحت الذبحاني في تصريح لـ"جسور بوست" أن هناك نقصا لافتا في المنظمات الدولية المهتمة بهذا المجال، لا سيما المهتمين بذوي الإعاقة الجسدية أو الذهنية داخل الشعوب الأصلية، مؤكدة أن الاهتمام العالمي لا يزال ضئيلا للغاية.
وأضافت: "النشطاء في هذا المجال يواجهون كل أوجه المعوقات، والاهتمام الدولي بذوي الإعاقة في الشعوب الأصلية لا يتجاوز 50 بالمئة، رغم أن هذه الفئة تحتاج إلى اهتمام بنسبة 150 بالمئة".
ومضت رائدة الذبحاني قائلة: "يجب أن يكون لدينا نشطاء وباحثون يستطيعون رفع الواقع عن هذه الفئات المستضعفة، ومن ثم لا بد من تشكيل (لوبي) للاهتمام بهذا المجال من نشطاء وحقوقيين وإعلاميين ليعبروا عن معاناة هذه الفئة المستضعفة داخل شعوب الأصلية التي يتم اضطهادها بالأساس".
ومن جانبها كشفت اثنتان من المؤسسات غير الربحية المعنية بحقوق السكان الأصليين، في دراسة مشتركة اطلعت عليها “جسور بوست” عن إهدار النسبة الكبرى من الأموال الممنوحة لتلك الفئة دون تحقيق فائدة ملموسة بين أصحاب المصلحة.
وهذه الدراسة أجرتها مؤسستا "مبادرة الحقوق والموارد" و"الغابات المطيرة في النرويج" في عام 2022، إذ كشفت عن مصير 2.7 مليار دولار جرى تخصيصها في الفترة بين عامي 2011 و2020 للشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية لمواجهة أزمة المناخ؛ إذ لم يذهب منها إلى مشروعات يقودها سكان أصليون مباشرةً سوى 17 بالمئة فحسب، وانخفضت النسبة بين النساء إلى 5 بالمئة، ما يعكس إهداراً للمخصصات المالية الممنوحة لهم.
تمييز مجحف
وغالبا ما تتعرض الشعوب الأصلية للتهميش، وتواجه التمييز المجحف في النظم القانونية للبلدان، ما يجعلها أشد عرضة للعنف والمعاملة السيئة.
كما يتعرض المدافعون عن حقوق الإنسان من السكان الأصليين، الذين يجاهرون بأصواتهم، للترهيب والعنف، اللذين يقعان غالبا بدعم من الدولة، إضافة إلى تعرضهم للاعتداء البدني والقتل لمجرد انتمائهم للشعوب الأصلية.
وبالنسبة لنساء وفتيات الشعوب الأصلية على وجه الخصوص، غالبا ما تنفي القضايا الهيكلية عبر النظم الصحية حقهن في الاستقلال الجسدي وتعرض حياتهن للخطر.
وتكافح نساء وفتيات السكان الأصليين للحصول على رعاية الصحة الجنسية والإنجابية بسبب الفقر والعزلة الجغرافية والتمييز وسوء المعاملة، من بين عوامل أخرى.
ومنذ عام 1999 أنشئت شبكة تلفزيون الشعوب الأصلية، لتكون أولى محطات البث المستقلّة المخصصة للشعوب الأصلية، حيث تعرض برامج يعدها السكان الأصليون وبرامج تخدم مصالحهم في جميع أنحاء كندا وحول العالم.
وتتلخّص مهمتها في شعارها "مشاركة رحلة شعوبنا، والاحتفاء بثقافاتنا، وإلهام أطفالنا، وتكريم حكمة شيوخنا"، إذ تسهم الشبكة في الحفاظ على تراث السكان الأصليّين في كندا، الذي يعاني حتى اليوم من نقصٍ في التمثيل ومن سجنٍ داخل أطرٍ نمطية في وسائط الإعلام الرئيسية.