«جيل بلا مدارس».. كيف سلبت الحرب على غزة حق الأطفال في التعليم؟
«جيل بلا مدارس».. كيف سلبت الحرب على غزة حق الأطفال في التعليم؟
في السابع من أكتوبر 2023، واجه قطاع غزة مرحلة جديدة من الصراع، الذي ألقى بظلاله على جميع جوانب الحياة اليومية، وكان من بين أبرز القطاعات التي تعرضت لأضرار جسيمة قطاع التعليم، حيث شهدت العملية التعليمية في غزة توقفًا شبه كامل، وهو أمر يضاف إلى سلسلة طويلة من التحديات التي يواجهها هذا القطاع في السنوات الأخيرة.
ويعاني قطاع غزة، الذي يقطنه نحو مليوني نسمة، منذ سنوات من حصار اقتصادي وعسكري خانق أثر بشكل كبير على جميع مؤسساته، بما في ذلك المدارس والجامعات، ومع اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023، بلغ تأثير هذا الحصار ذروته في القطاع التعليمي.
بحسب بيانات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، تعرضت أكثر من 150 مدرسة في غزة للدمار الكلي أو الجزئي نتيجة الغارات الجوية والقصف المستمر، هذا الدمار واسع النطاق أدى إلى توقف العملية التعليمية تمامًا في معظم مناطق القطاع، حيث أصبحت المدارس غير قادرة على استقبال الطلاب أو توفير بيئة تعليمية آمنة.
تدهور العملية التعليمية
تدهور العملية التعليمية في غزة بعد السابع من أكتوبر لم يكن مقتصرًا على دمار المدارس فحسب، بل امتد ليشمل الأثر النفسي العميق الذي تركته الحرب على الطلاب والمدرسين على حد سواء.
وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في ديسمبر 2023، يعاني أكثر من 70% من أطفال غزة من اضطرابات نفسية ناتجة عن الحرب المستمرة، حيث يعبر العديد منهم عن شعورهم بالخوف والقلق المستمرين، ما يؤثر بشكل كبير على قدرتهم على التركيز والتعلم.
وأظهرت الدراسة أن حوالي 50% من المدرسين يشعرون بأنهم غير قادرين على مواصلة عملهم في ظل الظروف النفسية والمادية المتدهورة.
وكانت إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجه قطاع التعليم في غزة هي عدم القدرة على الوصول إلى التعليم عن بُعد كبديل في أوقات النزاعات، بينما اعتمدت العديد من الدول خلال جائحة كوفيد-19 على تقنيات التعليم عن بُعد لضمان استمرارية العملية التعليمية، فإن غزة تفتقر إلى البنية التحتية التكنولوجية التي تتيح ذلك.
وشكل ضعف خدمات الإنترنت وندرة الأجهزة الإلكترونية مثل الحواسيب والهواتف الذكية عقبة كبيرة أمام الطلاب والمعلمين على حد سواء، في هذا السياق، أظهرت دراسة أجرتها وزارة الاتصالات في غزة أن أقل من 30% من الطلاب يمتلكون القدرة على الوصول إلى الإنترنت في منازلهم، ما يجعل من التعليم عن بُعد حلاً غير واقعي في ظل هذه الظروف.
تدمير ممنهج للتعليم
وتوقف التعليم في غزة ليس مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هو جزء من استراتيجية مستمرة للتدمير الممنهج للبنية التحتية التعليمية، فمنذ بداية الحصار على القطاع في عام 2007، تعرضت أكثر من 800 مدرسة في غزة لأضرار متفاوتة، ونتيجة لذلك، يعاني نظام التعليم من نقص حاد في التجهيزات والموارد ومع أن العديد من المنظمات الدولية تعمل على توفير بعض الدعم التعليمي والإغاثي، إلا أن الحصار والقيود المفروضة على دخول المواد الأساسية جعلت من المستحيل إعادة بناء المؤسسات التعليمية المدمرة بشكل فعال.
إلى جانب التحديات النفسية والتكنولوجية، هناك تحديات لوجستية أخرى تعرقل استمرارية التعليم في غزة، انقطاع الكهرباء المستمر، الذي يصل في بعض الأحيان إلى 12 ساعة يوميًا، يجعل من الصعب على الطلاب والمعلمين القيام بالمهام التعليمية الأساسية.
ووفقًا لتقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 40% من سكان غزة يعتمدون على مصادر بديلة للكهرباء، مثل المولدات الكهربائية، وهي حلول مكلفة وغير متاحة لجميع العائلات، هذا الوضع يجعل من الصعب على الطلاب القيام بواجباتهم الدراسية أو حتى متابعة الدروس في حال توفرها عبر وسائل التعليم عن بُعد.
ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها سكان غزة زادت من صعوبة استمرارية التعليم.
وفقًا لإحصاءات البنك الدولي، يعيش أكثر من 53% من سكان غزة تحت خط الفقر، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على قدرة العائلات على تحمل تكاليف التعليم، فمع تدمير المدارس العامة، يلجأ بعض العائلات إلى المدارس الخاصة أو البدائل التعليمية المؤقتة، إلا أن تكلفة التعليم في هذه المؤسسات تعد باهظة بالنسبة لغالبية السكان، ونتيجة لذلك، يتسرب العديد من الأطفال من المدارس ليصبحوا جزءًا من القوى العاملة غير الرسمية، ما يعمق الفجوة التعليمية ويزيد من نسبة الأمية.
الإحصائيات الأخيرة تشير إلى أن عدد الطلاب الذين حرموا من التعليم منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 يتجاوز 600,000 طالب، وهو رقم مقلق للغاية يعكس حجم الكارثة التعليمية في القطاع.
كما أن ما يقرب من 30,000 معلم ومعلمة توقفوا عن العمل نتيجة لتدمير المدارس أو فقدانهم لذويهم أو منازلهم خلال الحرب، هذه الأرقام تعكس حجم الفاقد التعليمي الذي يعاني منه قطاع غزة، وهو فاقد لن يتم تعويضه بسهولة حتى بعد انتهاء الحرب وبدء عمليات إعادة الإعمار.
وأطلقت منظمات المجتمع الدولي، وعلى رأسها اليونسكو واليونيسيف، نداءات متكررة للتدخل العاجل من أجل إنقاذ قطاع التعليم في غزة، في تقرير مشترك صدر عن المنظمتين في نوفمبر 2023، أكدت اليونسكو أن تعويض الفاقد التعليمي في غزة يحتاج إلى خطة شاملة وطويلة المدى تشمل إعادة بناء المدارس، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب والمدرسين، بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي للعائلات الفقيرة لضمان عودة أبنائها إلى المدارس.
تدهور الوضع التعليمي
وأشارت اليونيسيف إلى أن تدهور الوضع التعليمي في غزة قد يؤدي إلى أزمة طويلة الأمد تتمثل في ارتفاع معدلات الأمية وانخفاض مستويات التحصيل العلمي لدى الأجيال القادمة.
ويرى حقوقيون أن الحرب لا تدمر فقط البنية التحتية التعليمية، بل تؤدي إلى تدمير أجيال كاملة من الأطفال الذين يفقدون فرصتهم في التعلم والتطور، في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري التفكير في حلول إبداعية ومستدامة لضمان استمرارية التعليم حتى في أوقات النزاع، ومن بين هذه الحلول توفير مراكز تعليمية مؤقتة في مناطق آمنة، وتفعيل برامج الدعم النفسي والاجتماعي، وتعزيز التعاون بين المؤسسات الدولية والمحلية لتقديم الدعم المالي والتقني.
ومع ذلك، فإن الحلول المؤقتة لن تكون كافية للتعامل مع التحديات الهيكلية التي تواجه نظام التعليم في غزة، يجب أن يترافق أي تدخل دولي مع ضغوط سياسية قوية لإنهاء الحصار على القطاع وفتح المجال أمام إعادة بناء المؤسسات التعليمية بشكل دائم، وفي هذا السياق، يُعتبر التعليم حقًا أساسيًا لا يجب أن يُحرم منه أي طفل، حتى في أحلك الظروف.
تعليم متوقف ومستقبل مجهول
وفي السياق، قالت بنت غزة والناشطة الحقوقية، أميرة شتا، إن توقف التعليم في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023 ليس مجرد حدث عابر، بل هو فصل جديد من المعاناة المستمرة التي يعيشها سكان هذا القطاع المحاصر، وكواحدة من أبناء غزة، أعيش هذه المأساة يومًا بعد يوم، وأرى بأم عيني كيف أصبحت المدارس خاوية، وكيف تحول مستقبل آلاف الأطفال. التعليم في غزة، الذي كان بالفعل يتعرض لضغوطات كبيرة قبل الحرب، أصبح اليوم في حالة انهيار شبه تام، هذا التوقف لم يؤثر فقط على أولادنا والمدرسين، بل امتد ليشمل المجتمع بأسره، حيث باتت العائلات تعاني من آثار هذه الأزمة بطرق يصعب تصورها.
وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، منذ أكثر من 15 عامًا، نعاني من تدهور مستمر في كل الخدمات الأساسية، والتعليم ليس استثناءً قبل الحرب، كانت المدارس تعاني من نقص حاد في الموارد، واكتظاظ الفصول، بالإضافة إلى نقص المعلمين المدربين، ومع اندلاع الحرب، انهار كل ما تبقى من هذا النظام الهش، مئات المدارس تضررت أو دُمرت، وتحولت إلى أماكن غير صالحة للتعليم. المباني التي كانت تحمل ذكريات الطفولة والتعليم أصبحت الآن أطلالًا.
واسترسلت، الطلاب في غزة، الذين عاشوا تجارب الحروب السابقة، كانوا دائمًا يجدون في التعليم ملاذًا آمنًا رغم كل الصعوبات، كانوا يتحدون الحصار والانقطاع المستمر للكهرباء ويذهبون إلى مدارسهم بأمل بسيط في أن المستقبل قد يحمل لهم فرصة أفضل، لكن هذه الحرب كانت مختلفة، فقد سلبتهم حتى هذا الأمل البسيط، مئات الآلاف من الأطفال اليوم خارج المدارس، يجلسون في بيوتهم، بعضهم بلا سقف يحميهم، وبعضهم الآخر يتقاسم مع عائلته المأوى المؤقت في المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء.
وأوضحت أن المعلمين أيضًا يعانون، كثيرون منهم فقدوا منازلهم أو أفراد عائلاتهم، المدارس التي كانوا يعملون فيها لم تعد قائمة، والراتب الذي كانوا يعتمدون عليه لم يعد يأتي بانتظام، هؤلاء المعلمون، الذين كانوا يعملون في ظل ظروف قاسية حتى قبل الحرب، يجدون أنفسهم اليوم عاجزين عن أداء رسالتهم في تعليم الأجيال المقبلة.
وأكدت أن المشكلة الأكبر تكمن في الأثر النفسي العميق الذي تتركه هذه الحرب على الأطفال، كيف لطفل يعيش وسط أصوات القصف وأخبار الموت أن يفكر في دراسته؟ كيف يمكن لعقل صغير أن يستوعب أن مدرسته لم تعد موجودة، وأن معلمه الذي كان يرعاه قد رحل؟ الأطفال في غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة، ويشعرون بالخوف الدائم وعدم الاستقرار، التعليم بالنسبة لهم لم يعد أولوية، فهم الآن مشغولون بالنجاة في هذا العالم القاسي.
انقطاع الكهرباء والإنترنت
وقالت إن الإنترنت الضعيف، والانقطاع المتواصل للكهرباء، ونقص الموارد التعليمية، كلها تحديات تجعل من التعليم عن بعد، الذي قد يكون حلاً في بعض البلدان، غير ممكن هنا، أشعر بحزن عميق لأنني أدرك أن جيلًا كاملاً قد يفقد فرصته في التعليم، وهذا يعني أننا نخسر جزءًا من مستقبلنا.
وأتمت، التعليم ليس مجرد حق من حقوق الإنسان، بل هو أمل في مستقبل أفضل، وفي ظل هذا التوقف المستمر، لا أرى أي بصيص أمل في الأفق إلا إذا تدخل المجتمع الدولي بشكل جاد وفعلي لإعادة بناء هذا القطاع الذي هو أساس بناء أي مجتمع.
انتهاكات صارخة للحقوق الأساسية
وقالت الأكاديمية والحقوقية السورية، ترتيل درويش، إن أهل غزة يعيشون واقعًا مؤلما في جميع أمورهم ومنها التعليم، والذي يعكس انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان الأساسية، والتعليم يعد من الركائز الأساسية لنمو الفرد وتطوره، ويشكل الأساس لتحقيق حقوق أخرى، بما في ذلك الحق في الحياة الكريمة والحق في المشاركة الفعالة في المجتمع.
وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، في ظل النزاع المستمر، تعرضت المدارس والجامعات لأضرار جسيمة، ما أدى إلى تقويض حق الأطفال والشباب في الوصول إلى التعليم، تدمير المؤسسات التعليمية ليس مجرد اعتداء على البنية التحتية، بل هو اعتداء على المستقبل، عندما تُستهدف المدارس، يُفقد الأطفال بيئة آمنة يتعلمون فيها ويتطورون، ما يعزز الشعور باليأس والقلق.
وأشارت إلى أن آثار العنف ضد التعليم تتجاوز الجانب المادي لتصل إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية، الأطفال الذين يتعلمون في أجواء من الخوف وعدم الاستقرار يتعرضون لمستويات عالية من التوتر، مما يؤثر سلبًا على صحتهم النفسية وقدرتهم على التعلم، وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، يُفترض أن يكون التعليم متاحًا وميسورًا وآمنًا، وأي انحراف عن هذه المبادئ يعد انتهاكًا لحقوق هؤلاء الأطفال.
واسترسلت، يتفاقم الوضع بسبب التسرب المدرسي المتزايد، وهو نتيجة مباشرة للأوضاع المعيشية القاسية، فقد يتوقف الأطفال عن التعليم بسبب الظروف الاقتصادية أو عدم توفر بيئة تعليمية ملائمة، ما يؤدي إلى حرمانهم من فرصهم المستقبلية، إن حرمانهم من التعليم يعني حرمانهم من حقهم في التنمية والازدهار، تُعد المبادرات التي تتبناها بعض المنظمات الدولية لتقديم بدائل تعليمية خطوة مهمة، ولكنها لا تكفي، يتطلب الوضع استجابة شاملة ومستدامة تضمن حماية الأطفال من آثار النزاع، وتوفر لهم الفرص للتعلم في بيئات آمنة، يجب أن يكون هناك ضغط دولي حقيقي لحماية المؤسسات التعليمية، وضمان عدم استهدافها في أي ظروف.
وقالت، إن الفشل في حماية التعليم يعني استمرار دوامة العنف والمعاناة، ينبغي أن يكون هناك التزام عالمي واضح لحماية حقوق الأطفال وضمان حصولهم على التعليم، فالتعليم هو حق من حقوق الإنسان وليس مجرد فرصة، إن توفير بيئة تعليمية آمنة ومستدامة يتطلب تعاونًا دوليًا فعّالًا واعترافًا جماعيًا بأهمية هذا الحق.
وأتمت، يُعتبر تدمير التعليم في غزة تجسيدًا لانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية، يجب أن نعمل جميعًا، على المستوى المحلي والدولي، لضمان أن التعليم لا يُعتبر ترفًا، بل حقًا أساسيًا يجب احترامه وحمايته في جميع الظروف، إن مستقبل الأجيال يعتمد على الجهود المبذولة اليوم لحماية هذا الحق.