اليمن.. المقبرة المفتوحة للمهاجرين الأفارقة بين الهروب من الفقر وكابوس البحر
اليمن.. المقبرة المفتوحة للمهاجرين الأفارقة بين الهروب من الفقر وكابوس البحر
بين مآسي الغرق، والجوع، والاستغلال، باتت سواحلُ اليمن شاهدًا يوميًا على إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية الصامتة في العالم المعاصر، من إثيوبيا إلى الصومال، مرورًا بجيبوتي، يفر الآلاف من الشباب، والنساء، وحتى الأطفال، بحثًا عن فرصة حياة جديدة في الخليج العربي، لكن بدلاً من ذلك، كثيرون ينتهون إلى الموت في البحر الأحمر أو الوقوع ضحايا في قبضة المهربين على الأراضي اليمنية.
أسبوع من الجحيم.. وسبعة جثث على الشاطئ
في أحدث فصول الكارثة، أعلنت المنظمة الدولية للهجرة في بيان يوم الأربعاء مقتل 7 مهاجرين إثيوبيين جوعًا وعطشًا، بعد أن تعطّل قاربهم في عرض البحر في رحلة كان يُفترض أن تستغرق 24 ساعة، لكنها امتدت لسبعة أيام كاملة، بلا ماء أو طعام أو أمل.
كان القارب الذي انطلق من بوصاصو شمال الصومال يحمل 250 مهاجرًا إثيوبيًا، قبل أن يصل إلى منطقة عرقة جنوب اليمن، متأخرًا ومثقلًا بالموتى والأحياء المصابين بالهزال والصدمات النفسية، وقال عبد الستار عيسوييف، رئيس بعثة المنظمة في اليمن، إن "هؤلاء الأشخاص عاشوا أسبوعًا من الجحيم في أعالي البحار، وتعرضوا للاستغلال والرعب".
هذه الحادثة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. قبلها بأيام، شهدت محافظة أبين اليمنية حادثة غرق قارب آخر يحمل مهاجرين إثيوبيين، أسفرت عن مقتل 92 شخصًا، الحوادث المتكررة تعكس حجم الأزمة، وتشير إلى أن الطريق البحري إلى اليمن بات واحدًا من أخطر طرق الهجرة في العالم.
الطريق الشرقي: أقصر المسافات وأكثرها دموية
يشير تقرير مركز الهجرة العالمي إلى أن أكثر من 97 ألف مهاجر وصلوا إلى اليمن عام 2023 عبر ما يُعرف بـ"الطريق الشرقي"، الذي يربط القرن الإفريقي بالخليج العربي عبر اليمن.
وعلى الرغم من أن المسافة الجغرافية قصيرة نسبيًا بين الصومال أو جيبوتي واليمن، فإن الرحلة محفوفة بالمخاطر البحرية والانتهاكات البرية، فالبحر يبتلع قوارب متهالكة، والشبكات الإجرامية تنتظر الناجين لاستغلالهم جسديًا وماليًا.
شبكات التهريب.. وحوش تتغذى على الأمل
يقول لؤي العزازي، الصحفي اليمني المتخصص في قضايا المهاجرين، وفق "مهاجر نيوز" إن شبكات الاتجار بالبشر تعمل بتنسيق دقيق لاستدراج الفئات الأضعف من المجتمع، وتستغل جهلهم وظروفهم. "توهمهم بأنهم سيصلون إلى السعودية ويعملون هناك، بينما الواقع شئ آخر تماماً".
وأوضح أن بعض المهاجرين يُباعون لتجار البشر بمجرد وصولهم، ليقضوا أسابيع وربما أشهر محتجزين في ظروف مأساوية، يتعرضون خلالها للتعذيب، والابتزاز، والاغتصاب، وسط غياب تام لأي حماية قانونية.
المهاجرون ليسوا مجرد أرقام
في مارس 2021، شهد مركز احتجاز للمهاجرين الأفارقة في صنعاء حريقًا كارثيًا راح ضحيته أكثر من 60 شخصًا، وجرح مئات آخرين. وصفت هيومن رايتس ووتش الواقعة بـ"الجريمة البشعة"، مطالبةً بتحقيق دولي مستقل، لكن شيئًا لم يتغير منذ ذلك الحين.
بل إن الأرقام تتصاعد، فمنذ بداية عام 2024 وحتى يوليو توفي نحو 400 مهاجر أثناء محاولتهم عبور البحر إلى اليمن، ليصل عدد ضحايا هذا الطريق خلال العقد الأخير إلى أكثر من 1300 مهاجر.
أوضح شيخ محمد، رئيس "جمعية مكافحة الهجرة غير الشرعية"، أن بعض الجهات الأمنية في اليمن لا تكتفي بغض الطرف، بل تشارك في تسليم المهاجرين إلى المهربين مقابل المال، وأضاف: الدولة تجمعهم ثم تبيعهم.. النساء يتعرضن للاغتصاب، والرجال للتعذيب.. الموت هناك لا يحتاج إلى بحر".
وأكد أن الجمعية قدمت شكاوى متكررة دون استجابة تُذكر، مشيرًا إلى أن السلطات باتت خاضعة لنفوذ عصابات التهريب.
منظمة الهجرة: "العزلة ليست قدَرًا"
على الرغم من كل شيء، تسعى المنظمات الدولية لإيجاد حلول إنسانية ووقائية، وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن الأزمة لا يمكن حلّها إلا عبر تعاون إقليمي ودولي يشمل: توفير ممرات آمنة للعبور، وتأسيس مراكز استقبال وإنقاذ على السواحل، ومحاسبة شبكات التهريب وتجفيف منابع تمويلها، ورفع مستوى التوعية في دول المصدر.
كما أكدت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، في تقرير مشترك مع منظمة الهجرة، أن "اللاجئين والمهاجرين يتعرضون لانتهاكات جسيمة ليس فقط أثناء عبور البحر، بل في طرقهم البرية الطويلة عبر القارة الإفريقية".
اليمن... أرض العبور والموت
رغم الحرب والأزمات الداخلية، يبقى اليمن نقطة جذب مؤقتة للمهاجرين، ليس للبقاء، بل كنقطة انطلاق إلى دول الخليج. هذا القرب الجغرافي من السعودية يُغري الآلاف، لكنه أيضًا يفتح الباب أمام مافيات التهريب والإتجار بالبشر.
وقد أكد تقرير أممي أن أكثر من 22 ألف مهاجر إثيوبي عبروا من هرجيسا وبوساسو نحو اليمن خلال النصف الأول من عام 2024 وحده، وسط تحذيرات من تصاعد الأزمات الإنسانية على سواحل البلاد.
طريق قديم بنهايات مأساوية متكررة
يمتد الطريق البحري بين القرن الإفريقي واليمن منذ قرون، لكنه بات في العقود الأخيرة ممرًا خطيرًا للهجرة غير النظامية، في ظل ضعف الحماية، وغياب الدولة، وتصاعد الأزمات الاقتصادية في دول المنشأ، زادت أعداد المهاجرين الذين يسلكون البحر الأحمر بأمل الوصول إلى الخليج.
لكن الواقع يقول إن اليمن بات مستنقعًا للمهاجرين، تغرق فيه الآمال وتُدفن فيه الأجساد، فالمهاجر الذي لا يموت في البحر، قد يُحتجز، أو يُباع، أو يُغتصب، أو يموت على الحدود.