العدالة الغائبة.. لماذا يتراجع سجل أستراليا الحقوقي؟
العدالة الغائبة.. لماذا يتراجع سجل أستراليا الحقوقي؟
بينما تُعِدّ أستراليا ملفاتها استعدادًا للمراجعة الدورية الشاملة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في العام المقبل، تتكشف صورة قاتمة عن تراجع حاد في سجل حقوق الإنسان، يكشفها تقرير ضخم أعدّه تحالف يضم أكثر من 150 منظمة من منظمات الأمم الأولى، وهيئات قانونية، ومنظمات معنية بذوي الإعاقة، وحقوق اللاجئين، والمجتمع المدني، التقرير لا يكتفي برصد الانتهاكات، بل يدق ناقوس الخطر حول اتجاه خطير يهدد أبسط الحقوق الإنسانية في بلد طالما تفاخر بتقاليده الديمقراطية.
وجاءت الحكومة التي إلى السلطة على وعدٍ ببناء أمة أكثر رحمة وعدلاً، تواجه انتقادات لاذعة بسبب ما اعتبره التقرير تراجعًا في التزاماتها الجوهرية وفق ما أورده موقع صحيفة "teaonews"، اليوم الاثنين، وفيما تُصر الحكومة على أن حماية حقوق الإنسان معترف بها ومحمية من خلال إطار قانوني معقد يجمع بين القوانين الفيدرالية ودساتير الولايات، يكشف الواقع أن تلك الحماية تبدو غير كافية أمام أرقامٍ مقلقة وحقائق صادمة.
وفقًا لمؤشر قياس حقوق الإنسان لعام 2025، تراجعت أستراليا في مجالات أساسية مثل حرية التعبير، والسلامة من الاعتقال التعسفي، وحقوق الفئات الأكثر هشاشة. ويشير التقرير الحقوقي إلى استمرار ظواهر مثل العنصرية المنهجية ضد السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس، والسجن المبكر للأطفال، والتجريم المفرط الذي يعمّق دوائر الفقر والإقصاء.
أطفال بين السجن والفقر
أحد أبرز المحاور التي يثيرها التقرير يتعلق بما يُعرف بـأزمة عدالة الأطفال ففي معظم الولايات الأسترالية، يمكن سجن الأطفال بدءًا من سن العاشرة، وهو حد أدنى أدانه مرارًا خبراء الأمم المتحدة باعتباره انتهاكًا صارخًا لاتفاقية حقوق الطفل.
في فيكتوريا، تم رفع السن إلى 12 عامًا فقط، مع تأجيل وعود سابقة برفعه إلى 14 عامًا، وفي إقليم العاصمة الأسترالية (ACT) اعتمد بالفعل سن 14 عامًا، لكن ذلك يظل استثناءً في نظامٍ قضائيّ يُكرّس التمييز ضد أطفال الأمم الأولى.
تقول جيد لين، الرئيسة التنفيذية لمنظمة تغيير السجل، إن الأطفال يُدفعون إلى أذىً مدى الحياة بدلًا من أن يحظوا بفرصة للشفاء والنمو، مؤكدةً أن العدالة العقابية لا تُعالج أصل المشكلات المتمثلة في الفقر، الاكتظاظ، وغياب الخدمات الأساسية.
إحصائيًا، يمثل أطفال الأمم الأولى أقل من 6% من إجمالي عدد الأطفال في أستراليا، لكنهم يشكلون أكثر من 50% من الأطفال المحتجزين، بحسب بيانات مكتب الإحصاءات الأسترالي لعام 2024. مأساةٌ تُترجم على أرض الواقع في سجون مزدحمة، ومستقبل مسلوب.
التقرير الحقوقي لم يتوقف عند السجون فقط، بل تطرّق أيضًا إلى كارثة أمراض القلب الروماتيزمية المنتشرة في المجتمعات النائية للسكان الأصليين، وهي أمراض يمكن الوقاية منها بالكامل، لكن تظلّ منتشرة بسبب الاكتظاظ والفقر وسوء البنية التحتية.
تصف كاثي إيتوك، الرئيسة المشاركة لمنظمة IPOA، الوضع بمرارة: غالبًا ما نجد 20 شخصًا في بيت واحد في تلك المجتمعات، هذا انعكاس مباشر لتقصير الدولة، ويشبه ظروف العالم الثالث في واحدة من أغنى دول العالم.
فشل خطة سد الفجوة
منذ أكثر من عقد، أطلقت الحكومات الأسترالية خطة سد الفجوة لتقليص الفوارق بين السكان الأصليين وغيرهم في مجالات التعليم والصحة والبطالة والانتحار، لكن أرقام عام 2024 تكشف استمرار الفجوة، بل واتساعها في بعض المؤشرات.
معدل انتحار أبناء الأمم الأولى يظلّ ضعف المعدل الوطني، بينما يُتوقع أن يعيش السكان الأصليون أقل بثماني سنوات في المتوسط مقارنة بغيرهم، وفق تقارير مكتب الإحصاءات الأسترالي، وفي الوقت نفسه، لم تُحرز الحكومات أي تقدم يُذكر في خفض معدلات السجن أو رفع مستوى المعيشة.
ويأتي ذلك في أعقاب الفشل المؤلم لاستفتاء "صوت الأمم الأولى في البرلمان" عام 2023، الذي كان يهدف لإنشاء هيئة استشارية وطنية تمثل السكان الأصليين في التشريع وصنع السياسات، مما أعاد النقاش إلى نقطة الصفر، وفتح الباب لموجة عنصرية شهدت تصاعدًا مقلقًا خلال الحملة.
وتقول إيتوك: "نحن بلا هيئة تمثيلية وطنية منتخبة… وهذا فراغ كبير يحرم مجتمعاتنا من الدفاع عن نفسها"، وتضيف أن الفرصة لا تزال قائمة للاستفادة من توصيات لجنة يوروك للعدالة، وبيان أولورو للقلب، لتطبيق إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، وإقرار الحق في تقرير المصير.
قانون حقوق الإنسان
يرى خبراء أن غياب قانون وطني شامل لحقوق الإنسان يمثل الخلل الأهم في البنية التشريعية الأسترالية، فبينما تحظى بعض الولايات (مثل فيكتوريا وإقليم العاصمة) بتشريعات محلية لحماية الحقوق، لا يوجد ما يُلزم الحكومة الفيدرالية بمراعاة تلك الحقوق في جميع السياسات والقرارات.
تقول كايتلين ريجر، الرئيسة التنفيذية لمركز قانون حقوق الإنسان: "سجل حقوق الإنسان يتراجع لأننا بلا قانون ملزم يمنع الحكومات من تجاهل التزاماتها".
وتضيف: "نحتاج إلى قانون يضمن أن تُعامل كل إنسان بكرامة واحترام".
التقرير أشار أيضًا إلى سياسات أستراليا تجاه اللاجئين، بما في ذلك الاحتجاز الإلزامي في مراكز نائية، غالبًا في ظروف وصفتها المنظمات الحقوقية بأنها لاإنسانية، بجانب ذلك، يُسلط الضوء على فشل الحكومة في حماية المجتمعات الضعيفة من آثار تغيّر المناخ الذي يُفاقم التشرد، ويدمر سبل العيش في المجتمعات الساحلية النائية.
ما الذي تطالب به المنظمات؟
من أبرز التوصيات التي قُدمت في التقرير: رفع سن المسؤولية الجنائية إلى 14 عامًا بما يتفق مع المعايير الدولية، ودمج إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية في التشريعات الأسترالية، وإنشاء هيئة وطنية تمثيلية منتخبة للسكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس، وتشريع قانون وطني شامل لحقوق الإنسان، وتحسين ظروف السكن والخدمات في المجتمعات النائية، إلى جانب إصلاح سياسات الهجرة واللجوء بما يحمي كرامة الإنسان.
بينما تستعد أستراليا لمواجهة استعراض الأمم المتحدة في 2026، يرى نشطاء حقوق الإنسان أن التحدي الأكبر هو الإرادة السياسية، فالمطالب واضحة، والتوصيات موجودة، لكن يبقى السؤال: هل ستتحرك الحكومة من خانة الوعود إلى واقع الفعل؟