من التفاعل الافتراضي إلى الانتحار.. مخاطر الذكاء الاصطناعي تقرع جرس الإنذار للمجتمع
من التفاعل الافتراضي إلى الانتحار.. مخاطر الذكاء الاصطناعي تقرع جرس الإنذار للمجتمع
تواجه المجتمعات الحديثة تحديات متعددة تتعلق بصحة الشباب النفسية، خاصة في ضوء الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم، ويعتبر الذكاء الاصطناعي أحد أبرز ملامح هذه الثورة، حيث تمثل أدواته جزءًا لا يتجزأ من حياة المراهقين، لكن هذا الاستخدام الواسع يأتي مع مخاطر جسيمة، تتضمن القلق والاكتئاب، بل والانتحار.
الحادثة المأساوية التي تعرض لها المراهق "سيول سيتزر" في ولاية فلوريدا، حيث أنهى حياته بعد ارتباطه بشخصية افتراضية على منصة Character.A تبرز بوضوح هذه المخاطر.
يُعتبر الانتحار من بين الأسباب الرئيسية للوفاة بين المراهقين، بحسب تقرير نشرته "منظمة الصحة العالمية" في عام 2021، حيث تم تسجيل حوالي 800,000 حالة انتحار سنويًا حول العالم، ما يجعل هذه الظاهرة قضية صحية عامة تستدعي الانتباه.
وتشير الإحصائيات إلى أن الانتحار هو ثاني سبب رئيسي للوفاة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عامًا في الولايات المتحدة وحدها، ما يزيد من حدة القلق حول التأثيرات السلبية للتكنولوجيا على الصحة النفسية.
في حالة "سيول سيتزر"، ذُكر أنه أصبح مدمنًا على استخدام تطبيق الدردشة الروبوتية بشكل يومي، ما جعله يتخلى عن حياته الاجتماعية ويفضل العيش في عالم افتراضي. والدته، "ميغان غارسيا"، قدمت دعوى قضائية ضد الشركة، متهمة إياها بالتسبب في وفاة ابنها، وأشارت إلى أن سيول كان يتلقى رسائل ذات طابع عاطفي وجنسي من الروبوت، ما أسهم في تفكيره المستمر بالانتحار.
استخدام التكنولوجيا والمشكلات النفسية
ويوضح البحث الذي أجراه "معهد أكسفورد للإنترنت"، والذي شمل أكثر من 430,000 مراهق، أن العلاقة بين استخدام التكنولوجيا والمشاكل النفسية مثل الاكتئاب والميول الانتحارية تبدو محدودة جدًا، لكنه في الوقت نفسه يسلط الضوء على وجود زيادة طفيفة في القضايا العاطفية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك، تُظهر البيانات أن الانتحار لا يزال يشكل خطرًا كبيرًا بين المراهقين، ما يعني أن التأثير النفسي للتكنولوجيا يحتاج إلى تحليل أعمق.
وهناك العديد من الدراسات التي تربط بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها "جمعية علم النفس الأمريكية" أن المراهقين الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يوميًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، حيث أظهرت البيانات أن 13% من هؤلاء المراهقين أبلغوا عن مشاعر اكتئاب شديدة مقارنةً بـ6% من أولئك الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أقل.
وفي حين أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون له فوائد كبيرة، مثل توفير أدوات تعليمية ودعم الصحة النفسية، فإن الاستخدام غير المنظم يمكن أن يؤدي إلى نتائج مأساوية.
وفقًا لتقرير "مؤسسة كومن سنس ميديا"، أظهر حوالي 50% من المراهقين الذين تم استطلاع آرائهم أنهم شعروا بالقلق أو الاكتئاب نتيجة استخدام التكنولوجيا بشكل مفرط، هذا يشير إلى أن هناك حاجة ملحة لتطوير استراتيجيات تساعد المراهقين على استخدام التكنولوجيا بشكل صحي ومتوازن.
ووفقًا لدراسة أجراها "معهد البحوث الاجتماعي"، فإن المراهقين الذين ينتمون إلى أسر ذات دخل منخفض أو الذين يعانون من مشاكل عائلية هم أكثر عرضة للاكتئاب والتفكير في الانتحار، وهذا يوضح أن هناك حاجة إلى استراتيجيات شاملة لا تقتصر فقط على التكنولوجيا، بل تشمل أيضًا دعم الأسر والمجتمعات.
كما أن جائحة كورونا قد زادت من تعقيد هذه القضية، حيث أفادت دراسة نشرت في مجلة "جاما للطب النفسي" بأن 25% من المراهقين أبلغوا عن تدهور صحتهم النفسية خلال فترة الإغلاق، ما يزيد من الضغوط النفسية على الشباب. العزلة الاجتماعية وتزايد الاعتماد على التكنولوجيا قد يزيدان من خطر الاكتئاب والقلق، ما يستدعي التركيز على دعم الصحة النفسية في ظل التحديات المستمرة.
ويرى مراقبون ضرورة التحقق من مدى قدرة المنصات الرقمية على توفير بيئة آمنة للمستخدمين، في حالة الشركة محل الحادثة الأخيرة، فقد اتخذت الشركة بعض الإجراءات للحد من التعرض لمحتوى قد يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للمستخدمين.
وفي تقرير صادر عن "مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها"، تمت الإشارة إلى ضرورة وضع سياسات واضحة لضمان سلامة الشباب عند استخدام التكنولوجيا، مع التأكيد على أهمية التوجيه والإشراف الأسري.
ويرى حقوقيون، أنه من الضروري أن يعمل المربون وأولياء الأمور معًا لتوعية المراهقين بالمخاطر المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتوجيههم نحو استخدام التكنولوجيا، بشكل إيجابي يتطلب ذلك فهم كيفية استخدام هذه الأدوات، وتحديد الوقت المناسب والمحتوى المناسب للتفاعل مع هذه التقنيات. يمكن أن يؤدي هذا التعاون إلى تحسين الصحة النفسية للمراهقين، ويعزز من قدرتهم على التعامل مع التحديات التي قد يواجهونها.
حالات انتحار وأثرها على المراهقين
تتزايد حالات التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي على حياة الأفراد، خاصة المراهقين، حيث تبرز عدة حوادث دولية تعكس المخاطر المحتملة لهذه التكنولوجيا.
في "اليابان"، شهدت البلاد حوادث مأساوية تتعلق بتفاعل الشباب مع الروبوتات في عام 2018، انتحر شاب يُدعى كوتا، الذي كان قد أصبح مدمنًا على التواصل مع شخصية افتراضية تُعرف باسم "ميرا"، وهي شخصية من إحدى ألعاب الفيديو، وكانت الشخصية قد زودت كوتا بمشاعر حب ورعاية، ما جعله ينفصل عن الواقع، وفي النهاية، أدى شعوره بالفقد إلى اتخاذ قرار مؤلم بإنهاء حياته.
تشير التقارير إلى أن الاعتماد على شخصيات افتراضية قد يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية الحقيقية، ما يعكس تأثير التكنولوجيا على الصحة النفسية.
في "الولايات المتحدة"، حالة "أليسا هاريس"، التي انتحرت بعد تعرضها للتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي، تتعلق أيضًا بتفاعلها مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حيث كانت أليسا تتفاعل مع شخصيات افتراضية عبر تطبيقات مختلفة، حيث شعرت بأنها لا تُفهم بشكل جيد في حياتها الواقعية، وتأثرت صحتها النفسية بشدة، ما جعلها تعاني من الاكتئاب والقلق، وبعد وفاة أليسا، أُثيرت قضايا حول مسؤولية الشركات عن المحتوى المقدم في تطبيقاتها، ما أدى إلى دعوات لتطبيق لوائح أكثر صرامة لحماية المستخدمين.
وفي "الهند"، تم رصد حالات مشابهة، حيث أقدم مراهق على الانتحار بعد تفاعله المفرط مع شخصيات الذكاء الاصطناعي عبر تطبيقات الدردشة، وكان الشاب قد استثمر وقتًا طويلاً في محادثات افتراضية مع هذه الشخصيات، ما أدى إلى انسحابه من حياته الاجتماعية الحقيقية، وتعرضت أسرته لصدمة كبيرة بعد هذه الحادثة، ما أثار نقاشات حول الحاجة إلى تنظيم الاستخدام الشبابي لهذه التقنيات.
وفي "أستراليا"، تمت دراسة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي المدعومة بالذكاء الاصطناعي على الصحة النفسية للمراهقين، حيث أظهرت دراسة أجراها الباحثون في جامعة "ملبورن" أن المراهقين الذين يستخدمون هذه المنصات بشكل مفرط كانوا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق في حالة واحدة، كما ارتبطت محادثات المراهقين مع الروبوتات الذكية بانخفاض احترام الذات، ما أدى إلى مشاعر العزلة والقلق، ودفعت هذه النتائج إلى دعوات للمشرعين لوضع قيود على استخدام الذكاء الاصطناعي في التطبيقات الموجهة للشباب.
تحديات حقوقية وتأثيرات نفسية مقلقة
وفي السياق قال أستاذ علم الاجتماع، طه أبو حسين، إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي من بين العناصر الأساسية التي تشكل تجربة المراهقين في عصرنا الحالي، فهي تُستخدم في مجالات متعددة، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى الألعاب والتطبيقات التعليمية، ومع ذلك، فإن العلاقة بين المراهقين وهذه التطبيقات تتطلب فحصًا دقيقًا، نظرًا لتأثيراتها النفسية والاجتماعية والصحية المحتملة، وفي كثير من الأحيان، يتم تصميم هذه التطبيقات لجذب انتباه المراهقين، ما قد يؤدي إلى إدمان الاستخدام، ويخلق بيئة تفاعلية قد تكون مفيدة أو مدمرة.
وتابع أبو حسين في تصريحات لـ"جسور بوست"، من الناحية النفسية، يُظهر الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي تأثيرات سلبية، فالمراهقون الذين يقضون وقتًا طويلًا على وسائل التواصل الاجتماعي أو في التفاعل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد يعانون من مستويات مرتفعة من القلق والاكتئاب ويؤدي ذلك إلى الشعور بالوحدة والعزلة، حيث يصبح التواصل الافتراضي بديلاً عن التفاعلات الإنسانية المباشرة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يُعاني 10-20% من المراهقين من مشاكل صحية عقلية، وهذا الرقم مرشح للزيادة بسبب الضغوط المرتبطة باستخدام التكنولوجيا.
واسترسل خبير علم الاجتماع، علاوة على ذلك، فإن هذه التطبيقات لا تتيح دائمًا الحماية الكافية للمستخدمين، حيث قد تتعرض البيانات الشخصية للمراهقين للانتهاك، ما يثير قضايا تتعلق بحقوق الإنسان، مثل الحق في الخصوصية والأمان، ومن المهم أن يتم تصميم هذه التطبيقات بحيث تحمي حقوق المستخدمين، مع مراعاة الأعمار المناسبة وتحقيق التوازن بين الاستفادة والتأثيرات السلبية، ويُعتبر تعزيز الشفافية والمساءلة في تطوير التكنولوجيا ضرورة ملحة في عالم يزداد فيه التوجه نحو الذكاء الاصطناعي.
وأوضح، أنه على الصعيد الصحي، يمكن أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مفرط إلى نمط حياة غير صحي، حيث يفضل المراهقون الجلوس أمام الشاشات لساعات طويلة، ما يؤثر سلبًا على نمط نومهم ونشاطهم البدني، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد، تم ربط قلة النشاط البدني بمشكلات صحية خطيرة مثل السمنة وأمراض القلب، وعندما يشعر المراهقون بالضغط النفسي بسبب استخدام التطبيقات، قد يتجه بعضهم نحو سلوكيات خطيرة، بما في ذلك التفكير في الانتحار.
وأشار أبو حسين إلى أن بعض الدراسات ترى أن المراهقين الذين يتعرضون للتنمر الإلكتروني أو للأزمات العاطفية الناتجة عن تفاعلاتهم الافتراضية يكونون أكثر عرضة للتفكير في الانتحار، وهذا يشير إلى أن هناك علاقة مباشرة بين استخدام التكنولوجيا والصحة العقلية للمراهقين.
وأتم قائلا: يحتاج المجتمع إلى توعية المراهقين بمخاطر استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتعليمهم كيفية التعامل معها بشكل آمن، ويجب أن يتم تطوير هذه التطبيقات بحيث تعكس مبادئ حقوق الإنسان، مثل احترام الخصوصية وحق المراهقين في التفاعل الاجتماعي الإيجابي، من خلال تعزيز التواصل الفعال بين الأجيال وخلق بيئات آمنة، يمكن تقليل المخاطر المرتبطة باستخدام التكنولوجيا وتعزيز الصحة النفسية والاجتماعية للمراهقين.الذكاء الاصطناعي وتأثيره على المراهقين
وبدوره، قال الخبير التقني، المهندس محمود شكري، إن الذكاء الاصطناعي، هو مجال تكنولوجي متطور يسعى إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري، ويتمثل في عدة تطبيقات تتضمن التعلم الآلي، ومعالجة اللغة الطبيعية، ورؤية الكمبيوتر، ويُستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد في حياة المراهقين، حيث تقدم التطبيقات الذكية مجموعة متنوعة من الاستخدامات، تتراوح بين الترفيه إلى التعليم.
وتابع شكري في تصريحاته لـ"جسور بوست": تعتمد آلية عمل الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات ضخمة من البيانات وتعلم الأنماط منها.
تستخدم التطبيقات التي تهم المراهقين خوارزميات معقدة لتوفير تجربة مخصصة، تتضمن التفاعل الطبيعي مع المستخدم، على سبيل المثال، تطبيقات الألعاب والتسلية تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة اللعب، حيث يمكن أن تتكيف مع أسلوب اللعب الخاص بالمستخدم، ومع ذلك، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي بين المراهقين يثير العديد من المخاوف النفسية والاجتماعية، ولذا يجب استخدامه بضوابط، حيث تعتبر هذه القضايا دليلاً على الحاجة إلى وضع ضوابط جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، ويجب على الشركات المطورة لهذه التطبيقات تعزيز أمان المستخدمين وتقديم أدوات تمكنهم من إدارة وقتهم على هذه المنصات، ووفقًا للخبير في التكنولوجيا، مايكل سيكستون، يجب أن تتضمن هذه الضوابط تحديد الفئة العمرية للمتعاملين مع الذكاء الاصطناعي وتطوير محتوى يتناسب مع هذه الفئة.
واسترسل، بالإضافة إلى ذلك، فإن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى معالجة القضايا الأخلاقية المرتبطة بها، ويجب أن يتم تدريب الخوارزميات على بيانات متنوعة لضمان عدم التحيز، كما يجب أن يكون هناك شفافية أكبر حول كيفية جمع البيانات واستخدامها، فتقارير منظمة العفو الدولية تشير إلى ضرورة تطوير سياسات تحمي المراهقين من المخاطر المحتملة لاستخدام هذه التقنيات.
وأكد شكري أن الذكاء الاصطناعي يمثل أداة قوية يمكن أن تحسن من حياة المراهقين، ولكن يجب استخدامه بحذر، يتطلب الأمر استثمارًا في الأبحاث والضوابط الأخلاقية لضمان عدم تفشي الفجوات الاجتماعية أو تقويض القيم الإنسانية، إذا ما تم تنفيذ هذه الضوابط، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصبح أداة مفيدة تعزز التعلم والترفيه، بدلاً من أن يكون مصدر قلق يؤدي إلى نتائج سلبية.
وأتم، يبقى الذكاء الاصطناعي تقنية ذات إمكانيات هائلة، ولكنه يحتاج إلى الإشراف الدقيق لضمان استخدامها بطريقة تعزز الصحة العقلية والنفسية للمراهقين، بدلاً من الإضرار بها.